عيد الجيش الروسي هذه السنة مختلف عما سبق. من عرض ماء البحر الأبيض المتوسط، حيث حمل الجيش عديده وعتاده ووسّع وجوده العسكري في سوريا. يأتي تاريخ الثالث والعشرين من شباط من العام الحالي، مُحتفلاً بالإنجازات التي عجز عنها في السنوات السابقة، لدرجة بات فيها الجيش الروسي قادراً وجاهزاً حالياً للدخول في حرب عالمية ثالثة.
روسيا لا تبغي إقلاق العالم من إعادة تثبيت قوتها العسكرية البحرية والجوية والبرية، لكنّها تريد التأكيد مجدداً بأنّها قوة وكيان لا يُستهان بهما بعد اليوم ولوجودها العسكري حيث تحلّ، هيبة وألف حساب.
هيبة دفعت مسؤولاً كبيراً في البحرية الأميركية للقول إنّ «الانتشار الأميركي الدائم في البحر المتوسط، جاء رداً على تعاظم قدرات روسيا البحرية هناك».
إلاّ أنّ تاريخ إنشاء القوات المسلّحة الروسية يتحدث عن إنجازات كبيرة للجيش الروسي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً مع تاريخ الوطنيين آنذاك، حيث إنّها أدّت دوراً حاسماً في إنشاء وتعزيز روسيا.
ففي المقام الأوّل كانت الانتصارات العظمى هي انتصارات للشعب الروسي على أعدائه آنذاك منهم الغزاة التتار والمغول في منطقة كوليكوفا عام ١٣٨٠، والسويديون في بالتافا عام ١٧٠٩، والفرنسيون في بورودينو عام ١٨١٢، والفاشيون الألمان في الحرب الوطنية العظمى من الـ ١٩٤١ حتى الـ ١٩٤٥.
وبالعودة الى المصادر القديمة الموثَّقة من القرن السادس الميلادي، تظهر أوّل معطيات وتوصيفات للتنظيم العسكري لدى الأسلاف، يتبيّن أنّ الاتحادات القبائلية السلافية كانت تنشئ ميليشياتٍ عسكرية تشكّلت حينها ومعظمها من الرجال البالغين. وفي نهاية القرن الثامن ظهرت الى جانب تلك الميليشيات مجموعة من الفرق الأميرية المؤلفة من الجنود المدربة والمحترفة.
علماً أنّ القوات البرية قد شكلت في ذلك الوقت، وتحديداً من القرن الثامن حتى العاشر، أساس القوات العسكرية السلافية. وأمّا الفرسان المسلّحون الذين بدأت تزداد أهميتهم أواخر القرن العاشر حتى نفّذوا في القرون الأربعة المقبلة دوراً جوهرياً للقوات المسلحة في المقاطعات الروسية، فكانوا فقط للاستطلاع والحراسة.
وفي أواخر القرن الرابع عشر، ظهرت الأسلحة النارية في روسيا وتشكّلت الجمهورية الموحَّدة، ما جعل وابتداءً من القرن الخامس عشر القوة العسكرية الرئيسة في مقاطعة موسكو معتمدة على الميليشيات، المُؤلّفة من طبقة النبلاء وغالبيتهم من الخيالة.
إلاّ أنّ منتصف القرن السادس عشر شهد إنجازاً للقيصر إيفان غروزني بما يخصّ الإصلاح العسكري، ما خلق آنذاك ما سُمّي بجيش
الستيرليتس، الذي كان عليه إتمام الخدمة العسكرية في الحرب والسلم أيضاً.
وكان ذلك الجيش وصل عدده الى نحو العشرين ألف جندي، حيث راوح العدد الاجمالي للقوات العسكرية الروسية في وقت الحرب ما بين ٢٥٠ الى ٣٠٠ الف شخص، منهم ٨٠ الى ١٠٠ الف من النبلاء الخيالة و٩٠ ألفاً من الميليشيات.
وكانت القوات العسكرية تستخدم السيوف ذات الحدّين سلاحاً، وكذلك الرماح والحراب والكتل الحديدية والسكاكين والأقواس. أمّا للحماية فقد استعملوا الدروع والخوذات والقمصان الحديدية.
وبلغت القوات العسكرية ذروتها في القرن الثامن عشر، حيث قام القيصر الشاب بيتر الأوّل بتنفيذ الإصلاح العسكري، فأنشأ قوات نظامية مسلّحة برية وبحرية (أكثر من مئتي ألف عنصر). وكان في حوذة المشاة بنادق ذات حربات والفرسان بنادق خفيفة ومسدسات وسيوف. كما استخدمت الفرق العسكرية المدفعية ذات القياس الموحّد وتكوّنت الأساطيل الحربية من أكثر من ٨٠٠ قارب شراعي وقوارب ذات مجاذيف.
يمكن القول إنّ القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر قد تميّزا بالانتصارات المهمة للجيش والأسطول الروسي. وكان في صفوف الجيش جنرالات كبيرة وأدميرالات أمثال بيتر الأوّل، ساتيلكوف، رومانتسيف، باتومكين، سوفوروف، كوتوزوف، أوشاكوف، سينافين وغيرهم.
وفي أواخر القرن التاسع عشر تمّ تنفيذ إصلاحات عسكرية جديدة بقيادة وزير الحربية ميلوتينا، وبنتيجتها تمّ إنشاء قوات مسلحة واسعة النطاق (نحو أربعة ملايين ونصف عنصر) وتبديل أنظمة الأسلحة القديمة، والانتقال من أسطول شراعي الى نظام بخاري مدرَّع.
ممّا لا شك فيه أنّ الجيش الروسي مرّ بتجارب صعبة خلال الحرب العالمية الأولى، إذ إنّ الانتصار في معركة غاليسيا والجبهة التركية قابلته هزائم في روسيا الشرقية ومستنقعات ماسوريان. ففي الأشهر الأولى من الحكم السوفياتي، تمّ إنشاء الجيش الأحمر الذي ضمّ أكثر من أربعمئة وخمسين ألف شخص حتى عام ١٩١٨.
وفي كانون الثاني من العام نفسه صدر مرسوم إنشاء جيش العمال والفلاحين الأحمر والأسطول الاشتراكي الأحمر للعمال والفلاحين. بعدها تمّ اختبار القدرة القتالية للجيش الاشتراكي في الحرب الأهلية الإسبانية (1936- 1939)، وفي النزاعات العسكرية مع اليابان من عام 1937 حتى 1939، وفي الحرب السّوفياتية الفنلندية (1939 – 1940).
عاشت روسيا وجيشها الأحداث الأكثر مأساوية في فترة الحرب الوطنية العظمى من العام ١٩٤١ حتى العام ١٩٤٥. وقد أثبتت هذه الحرب مرة أخرى للروس والعالم على السواء، البطولة والشجاعة والوطنية التي يتحلّون بها مع أنّ الجندي السوفياتي قد عانى صراعاً حاداً وطويلاً، إلاّ أنّه استطاع هزم عدوّه الجبار.
وفي فترة ما بعد الحرب، شاركت القوات المسلّحة السّوفياتية في عدد من النزاعات العسكرية والحروب الداخلية لكوريا وفيتنام وأفغانستان وأنغولا- فكان ذلك بعضٌ من لائحة دول حارب فيها الضباط والجنود وعمل الخبراء العسكريون الروس.
وفي هذه الفترات حدثت تغييراتٌ كبيرة في تنظيم وتسليح الجيش، فشملت القوات المسلحة السّوفياتية قوات برية وصواريخ المهام الاستراتيجية وقوات جوية وقوات الدفاع الجوي وقوات الأسطول البحري. وكانت مُجهّزة بأسلحة قوية بما في ذلك الصواريخ النووية المجهّزة بتكنولوجيا مُتقدّمة وفرق عسكرية مدربة تدريباً جيداً على استخدامها.
وبعدما قُسِّم الاتحاد السوفياتي الى دول مستقلة بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الجيش الروسي. أمّا حالياً فتُعتبر القوات المسلحة للاتحاد الروسي ثاني أكبر القوات في العالم، وهي مُجهّزة بأحدث المعدات العسكرية.
أمّا الجنود فهم مُدرَّبون تدريباً مهنياً عالياً، وفعاليتهم ملموسة على الأراضي الروسية وكذلك السورية في الفترة الأخيرة، حيث يحاربون الجماعاتِ الإرهابية التي باتت تشكل تهديداً عالمياً.
روسيا حالياً وبتعاظم قدراتها العسكرية باتت رقماً صعباً في المعادلة السياسية الدولية… وبينما يحتفل جيشها هذه السنة بعيده مُعتداً فخوراً، تجد العالم مترقباً من عظمة هذا الجيش، وقد أيقن فعلياً أنّ روسيا بدأت كتابة تاريخها العسكري والسياسي من جديد… واللبيب من أسلحة ومعدات روسيا الجديدة المتقدّمة جداً يفهم.