تبدو روسيا اليوم باعتبارها المتدخل الأهم في القضية السورية٬ وهذه حقيقة بين أهم حقائق الواقع السوري٬ تم تكريسها عبر سياسات وخطوات تابعتها موسكو طوال سنوات ست من تطورات عاصفة٬ شهدتها البلاد بعد انطلاق ثورة السوريين على نظام الأسد عام 2011.
وبالعودة إلى بداية الأحداث٬ يمكن القول: إن علاقات موسكو مع نظام الأسد كانت علاقات تقليدية رغم الإرث القديم من العلاقات السورية – السوفياتية؛ إذ كانت تماثل الكثير من علاقات النظام مع دول أخرى بما فيها من إيجابيات وسلبيات. غير أن موسكو سرعان ما أدركت حاجة نظام الأسد إلى علاقات جديدة في ضوء ما يواجهه من تحديات الثورة عليه٬ وربطت ذلك بأهدافها وعلاقاتها الدولية٬ فقررت الوقوف إلى جانب النظام ضد معارضيه٬ وبدأت في تنشيط علاقاتها مع النظام٬ واتخذت موقف الحذر من المعارضة سرعان ما طورته إلى حد العداء.
لقد رسم الروس سياستهم السورية وفق ثلاث مراحل٬ كانت أولها دعم نظام الأسد والوقوف ضد المعارضة٬ والثانية الدفاع عن النظام وتشكيل حلف دولي إقليمي يؤيده٬ وإدانة المعارضة والوقوف ضد داعميها ومؤيدها٬ والثالثة الانتقال إلى الانخراط العميق طرفاً في القضية السورية بصورة لا يمكن إيجاد حل للقضية دون أخذ موقف موسكو ومصالحها بعين الاعتبار.
ففي المرحلة الأولى٬ صعدت موسكو علاقاتها السورية٬ فاستمرت في تنفيذ اتفاقيات التعاون العسكري بما فيه تقديم الأسلحة والمعدات العسكرية٬ إضافة إلى إرسال الخبراء في المجالات الأمنية والتقنية٬ مما ساعد في ترميم ما أصاب النظام من انهيارات٬ وأضافت موسكو إلى ما سبق اتباع سياسة مراوغة مع المعارضة السورية٬ بالتمييز بين«معارضة الداخل» التي تمثلها القوى النشطة في سوريا ومنها هيئة التنسيق الوطنية٬ و«المعارضة الخارجية» التي جسدها المجلس الوطني السوري٬ ولاحقاً الائتلاف الوطني٬ فانفتحت على الأولى٬ وحاورت الثانية٬ لكن دون نتائج في الحالتين بحيث همش الروس المعارضة السورية ودورها في القضية السورية.
وطورت موسكو سياساتها في المرحلة الثانية٬ بالانتقال إلى بلورة سياسة إقليمية دولية داعمة لنظام الأسد٬ بتنسيق علاقاتها مع إيران الداعم الرئيسي للنظام٬ وقبلت بدور ميليشياتها خصوصا «حزب الله» في سوريا٬ وبلورت موقفاً دولياً يضم الصين داعماً لنظام الأسد تحت شعارات الاستقلالية ورفض التدخلات الخارجية٬ ووقفت ضد اتخاذ أي قرارات دولية حول القضية السورية٬ وفي هذا السياق مارست الفيتو في مجلس الأمن الدولي سبع مرات لصالح سياسات الأسد.
وطورت روسيا مستوى علاقاتها الإقليمية والدولية في الموضوع السوري٬ فأقامت بالشراكة مع إيران والعراق ونظام الأسد مركزاً في العراق لتنسيق سياسات الأطراف الأربعة٬ وأقامت مركز اتصال بين قاعدة حميميم وتل أبيب للتنسيق٬ يربط السياسيتين الروسية والإسرائيلية٬ وآخر في عمان ينسق سياسات الأردن وروسيا في سوريا٬ وبعد سلسلة من المواجهات السياسية والعسكرية مع تركيا٬ قامت بجلب تركيا إلى «تفاهم ثلاثي» روسي إيراني تركي للحل في سوريا٬ تضمنه «إعلان موسكو» الذي وقعته الأطراف الثلاثة في ديسمبر (كانون الأول) ٬2016 ليعكس تحولاً خطيراً في الموقف التركي إزاء سوريا.
لقد رفضت روسيا وقف دعمها لنظام الأسد٬ وفك ارتباطها معه٬ ووقف تعاونها مع إيران في سوريا٬ وقاومت كل الجهود والضغوطات العربية والإسلامية في هذا المجال٬
وما كان ذلك ليتم لولا وجود أمرين٬ أولهما عدم جدية بعض الأطراف المشاركة في تلك الجهود والضغوطات بما في ذلك أطراف المعارضة السورية٬ والثاني واقع التشتت وضعف المسؤولية في موقف المجتمع الدولي بمنظماته ودوله ومنها الولايات المتحدة.
ومهد نجاح سياسة موسكو السورية في المرحلتين الأولى والثانية٬ لانتقالها إلى المرحلة الثالثة٬ والتي جعلت من روسيا طرفاً رئيسياً في القضية السورية٬ انطلاقاً من التدخل العسكري المباشر عبر إرسال قواتها الجوية إلى سوريا أواخر العام ٬2015 ثم دعمتها بإرسال المزيد من القوات البحرية والبرية٬ ومزيد من الأسلحة والخبراء استناداً إلى اتفاق طويل الأمد٬ وقعته مع نظام الأسد٬ يسمح لها بالتدخل في كل الشؤون السورية السياسية والعسكرية والإدارية٬ بما ذلك إدارة الصراعات والتسويات العسكرية والسياسية في سوريا وحولها مع مختلف الأطراف.
إن أبرز معالم الدور الروسي في هذه المرحلة٬ سعي الروس إلى خلق مسار آستانة ومحاولة جعله بديلاً للمساعي الدولية في الحل السوري عبر مسار جنيف٬ وهو تحول٬ ما كان له أن يحدث لولا ضغوطات ومساعي موسكو على تركيا وإحداث تحولات في موقفها٬ سمح لموسكو بالإمساك بجماعات المعارضة السورية المسلحة٬ ودفعها في مسار آستانة٬ كما سمح لموسكو بإدخال تركيا طرفاً في ضامني اتفاق مناطق خفض الصراع الأخير.
ومن أبرز معالم الدور الروسي الراهن في سوريا٬ تحول موسكو إلى قوة فاعلة٬ ليس لجهة التأثير على سياسات النظام وتوجهاته فقط بما في ذلك إعادة تنظيم وهيكلة قواته وميليشياته٬ بل التأثير على سياسات إيران ومواقف الميليشيات التابعة لها٬ وإخضاع حركتها لخطط التحرك السياسي والميداني في الصراع السوري٬ وقد طور الروس دورهم في الداخل ليشمل قوى «المعارضة الداخلية»٬ فأثروا في تعديل بعض مواقف أطرافها٬ وأسهموا في خلق أطراف هي أقرب لمواقفهم مثل مجموعة حميميم نسبة إلى القاعدة الجوية الروسية٬ كما تدخلوا في الصراعات الميدانية٬ بحيث استطاعوا الدخول على خط التسويات المحلية خصوصا في مناطق محيطة بدمشق٬ وكان من الصعب على نظام الأسد القيام بمثل هذا الدور. خلاصة القول في سياسة موسكو السورية٬ هي أن روسيا هي القوة الأهم في قوى التدخل٬ وهي التي تملك أكثر الأوراق تأثيراً في القضية السورية٬ وأن ضمان دورها في حل القضية٬ لا بد أن يتصل بمعالجة قضايا خارج النطاق السوري كله٬ مما يجعل التفاهم مع الروس بحاجة٬ ليس فقط إلى تفاهم سوري إقليمي ودولي فقط٬ إنما إلى مستوى عال من الوحدة والجدية من المستويات كافة في التعامل مع الروس حول سوريا وخارجها أيضا.