لا يأخذ القادة الروس نَفَساً ولا يتركون لغيرهم التقاط أنفاسهم! ومثلهم مثل الهواة، مستعجلون وقاصرون! داخوا ودوّخوا! ولم يعد أحد يعرف تماماً أين اتجاه البوصلة عندهم! كأنهم راهنوا وخسروا، وحركتهم الراهنة لا تدلّ سوى على ذلك: لا تشبه شيئاً بقدر ما تشبه حركة المقامر الخاسر!
يستمرون في اعتماد سياسة «سابقة» كأن شروطها مستمرة وقائمة.. يريدون «التفاهم» مع الأميركيين وفق «قواعد» أرساها الرئيس السابق أوباما! وربما يكون ذلك من حقهم طالما أنهم اشتغلوا بدأب وإصرار من أجل فوز مَن يعتبرونه صديقهم دونالد ترامب! لكنهم يرفضون الإقرار (وبخفّة الهواة ذاتها) بأنّ شأن السياسة الخارجية لأكبر وأخطر وأغنى وأقوى دولة في العالم (والتاريخ) أعقد بكثير من تركها رهينة تهريج لا يليق حتى بدولة من العالم الثالث!
يرفضون الإقرار أو التسليم بأنّ أوراقهم الأميركية (ومنها على ما يقال مادة ابتزازية تخصّ ترامب نفسه!) تتعرض للتمزيق واحدة تلوَ أخرى. وإن إدارة «الجنرالات» في واشنطن تأخذ شيئاً فشيئاً هيئة الإدارة الموازية لتلك التي في البيت الأبيض! واللعبة خطيرة وجديّة والى حدّ بروز شيء يشبه تقسيم العمل بين «الإدارتين»: لترامب أن يسعى داخلياً على هواه، ويتسلّى بمناكفة الإعلام وإلغاء الإصلاح الصحّي الأوبامي، والاستمرار في السعي الى بناء جدار الفصل مع المكسيك ومحاولة تنفيذ توجهاته الكريهة إزاء الهجرة والمهاجرين.. إلخ. ولهم (الجنرالات) إعادة تركيز ما اختلّ من ثوابت العلاقات الخارجية بكل أبعادها، من «الناتو» الى موسكو، ومن الاتحاد الأوروبي الى الخليج العربي! ومن بكين الى طهران!
منذ إزاحة مايكل فلين وموسكو مهتاجة! يدعو فلاديمير بوتين الى «عودة التنسيق» الأمني والاستخباراتي بسرعة، فيطير ذلك المستشار للأمن القومي من البيت الأبيض! ويقول وزير دفاعه (وخليفته المحتمل؟!) سيرغي شويغو إنّه يريد علاقات جيدة مع «البنتاغون» شرط أن يبتعد عن منطق القوّة، فيطير نظيره الأميركي جيمس ماتيس الى «الناتو» ويبدّد مناخات ترامب، ويستمر في إرسال «المارينز» الى بولندا، احترازياً! ويقول وزير الخارجية سيرغي لافروف، وغيره في موسكو، إنّ «التفاهم» وارد جداً إزاء سوريا، لكنه يسمع (مثلنا!) عبر وسائل الإعلام أنّ واشنطن تريد إقامة مناطق آمنة فيها!
وإلى ذلك يُضاف، أن موسكو لم تساعد نفسها. بل أكدت واقعة أن هيجانها المتآخي مع القلق زاد ولم ينقص. واطمئنانها المبكر الى«صداقة» ترامب ذهب في إجازة طويلة! وأحدث دلالات تخبّطها واستمرارها في اعتماد «سياسة أوبامية» هو عودتها الى «الفيتو» في مجلس الأمن ضد قرار العقوبات على سلطة الرئيس السابق بشار الأسد.. ثم الانحدار الى إصدار الناطقة باسم وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا بياناً يدين فوز الفيلم السوري الوثائقي القصير «الخوذات البيضاء» بجائزة «أوسكار»! وصولاً الى العودة بالمناحة الى جذورها من خلال قول نائب وزير الخارجية سيرغي ريابكوف إنّ العلاقات (مع واشنطن) في أدنى مراتبها منذ الحرب الباردة..
.. أكثر طرفين انبهرا وهيّصا لهزيمة هيلاري كلينتون هما موسكو وطهران. لكن العاصمتين اليوم تبدوان الأكثر خيبة: واحدة مصدومة ودائخة. والثانية تستعد للأسوأ.. وللحديث صلة!