في كل مرة تجرى جولة جديدة من المفاوضات بين موسكو وواشنطن تحت عنوان البحث عن الحل السياسي المعلّق، تقوم قوات النظام السوري مع حلفائها الإيرانيين والميليشيات التابعة باندفاعة جديدة ضد مناطق المعارضة السورية، بغطاء روسي.
هكذا تتجه بلدة داريا في ريف دمشق، والأحياء الشرقية لمدينة حلب إلى مرحلة جديدة من التدمير الممنهج والقتل العشوائي، والأخطر، إلى حرب الحصار والتجويع، لتضافا إلى عشرات المناطق التي يموت الأطفال والمدنيون فيها جوعاً وعطشاً، على مرأى من ناظري تنفيذ القرار الدولي الرقم 2254 الذي تنص بنوده على إدخال المساعدات الإنسانية إلى هذه المناطق بصرف النظر عن نجاح أو انطلاق مفاوضات الحل السياسي.
وفي كل مرة تتصاعد تدابير وخطط الحلف الأطلسي بتوسيع تواجد قواته ضد «التهديد الروسي» في شرق أوروبا، كما حصل خلال قمة دول الحلف الأخيرة في وارسو، يكون الرد الروسي في بلاد الشام، ليتحول السوريون إلى حقل تجارب للسلاح الروسي، في تحدي الكرملين للعدائية الغربية لطموحاته باسترجاع النفوذ على بعض القارة العجوز. هكذا تعود القاذفات الروسية الاستراتيجية إلى الأجواء السورية فتقصف مواقع المعارضة في ريف حلب تحت مظلة قصف مواقع «داعش» و «جبهة النصرة» في تدمر والرقة، فتستهدف الفصائل غير المصنفة إرهابية، وتلك المصنفة معتدلة وتتيح للنظام إحداث تقدم على الجبهة يعينه على تشديد حصاره وممارسة وحشيته ضد المدنيين، فهؤلاء هم وقود الرسالة «الاستراتيجية» التي أراد القيصر تسطيرها بأن في استطاعة قاذفاته الضخمة أن تنطلق من قواعدها في روسيا وتتجاوز الدرع الصاروخية الأطلسية في تشيكيا والقوات المنتشرة في رومانيا وبولندا ودول البلطيق، حاملة القذائف على أنواعها لتضرب حيث تشاء. أما في الحساب السوري، فإن العارفين بموقف موسكو يعتبرون أن دعم القصف الجوي لمصلحة قوات الأسد هو تعويض له عن الخسائر التي تكبدها في ريف اللاذقية وبعض ريف حلب، وعن إسقاط المعارضة 5 طائرات له قبل أسبوعين.
ولم يعد هناك من حساب للصفة «الدراكولية» للنظام السوري على رغم الصيحات الدولية بأنه يرتكب جرائم حرب، فالأمر بلغ حد قول بشار الأسد في مقابلته مع محطة «إن. بي. سي.» إن الصحافية الأميركية ماري كولفن التي قتلها قصف قواته عام 2012 ، «هي المسؤولة» عن مقتلها، فالشعب السوري في اعتقاده أمام الامتحان بين القتل و بين الولاء له.
الأهم أن السوريين يستمرون بالتعرض للمحرقة بالدم البارد بسبب استمرار الخلاف الأميركي الروسي على مشروع الحل في سورية، الذي يشهد جولة جديدة من التفاوض مع زيارة جون كيري إلى موسكو، وهي جولة تتم في ظل تراجع نظرية الدب الروسي بأنه من الأفضل التوصل إلى الحل السياسي في سورية مع إدارة باراك أوباما قبل انتهاء ولايته، لأنه سلم لروسيا بيدها العليا فيها، وخشية مجيء إدارة أكثر تشدداً الخريف المقبل، لمصلحة التردد في تقديم التنازلات لإدارة راحلة، وضعيفة. والأسباب عدة منها:
– أن الاجتماعات المكثفة التي يعقدها مستشار الرئيس الأميركي في مجلس الأمن القومي روبرت مالي مع المسؤولين الروس (وممثلي دول أخرى) في جنيف حول التصور التفصيلي الذي تقدم به أوباما لمعالجة الوضع السوري وتنسيق الحرب على الإرهاب لم تصل إلى نتائج. فهذا التصور تتراوح بنوده بين تنسيق طلعات الطيران الأميركي والروسي في الأجواء السورية والمواقع التي عليهما قصفها وبين السعي لمرحلة انتقالية يتحدد فيها متى وكيف يرحل الأسد، في وقت تريد موسكو حرية الحركة في القصف الجوي، وتمتنع عن البحث في رحيل الأسد وتترك الأمر لانتخابات رئاسية يحق له الترشح إليها، على أن تكون بإشراف ورقابة دولية.
– أن أوباما يركز على محاربة «داعش» في العراق ويهمل مكافحته في سورية.
– تعتقد موسكو أن الوقت بات داهماً وسيتعذر إطلاق العملية السياسية بوضع دستور جديد وقيام حكومة جديدة في أوائل آب (أغسطس) المقبل.
– منذ الاتفاق على الهدنة في شباط (فبراير) الماضي أثبتت واشنطن أنها لا تمون على المعارضة في تنفيذ ما يتفق عليه فتلجأ إلى تركيا والمملكة العربية السعودية أو قطر، لتحقيق خطوات ما. وباتت موسكو ترى أن إنهاء قطيعتها مع تركيا يتيح لها التنسيق المباشر معها، بمقابل هم الأخيرة الحد من طموح الأكراد في الاستقلال، فضلاً عن أن علاقتها مع الرياض تسمح بتواصل مباشر للتعاون. وباتت أنقرة، بعد استئنافها الاتصالات المخابراتية مع دمشق، شريكاً في التفاوض على قيام مجلس عسكري يكون منطلقا للمرحلة الانتقالية، في انتظار الإدارة الأميركية الجديدة.