حصل فلاديمير بوتين من دونالد ترامب على تفويض للتصرف بالملف السوري، من دون إسقاط الشروط الأميركية للتسوية النهائية للأزمة. المؤشّر الأول للتفويض جاء من عودة بعثة الأمم المتحدة إلى الجولان وموافقة إسرائيل على وجود شرطة روسية في المنطقة الفاصلة بينها وبين قوات النظام. وتمثّل المؤشّر الآخر في ما تردّد عن «اتفاق مبدئي» بين الرئيسين على إخراج الإيــــرانيين وأتـــباعهم من سورية، ولم يعلن هذا الاتفاق رسمياً ولا أي اتفاقات أخرى، لكن حديث طهران للمرّة الأولى عن شروط انسحابها عنى أن هذا الاحتمال بات قيد الدرس والتداول. الإسرائيليون يعتبرون أن بشار الأسد الذي طلب من الإيرانيين مساعدته هو مَن سيطلب منهم المغادرة. وكـــــان تردّد أن الرئيس الروسي طلب من رئيس النظام السوري وضع هذا الاســـــتحقاق في حسابه. سبق أن تلقّى الأسد في الشهور الأولى من هذه السنة طلبات أميركية وإسرائيلية مماثلة عندما كانت «حرب إسرائيلية – إيرانية» في سورية حديث المنطقة. هذه الحرب باتت مستبعدة في سورية وتظلّ احتمالاً قائماً ضد «حزب الله» في لبنان بسبب ترسانته الصاروخية.
في ذلك الوقت، تكرّرت الإنذارات للأسد، إذ اتهمته إسرائيل بأنه يدعم «شخصياً» الاستعدادات الإيرانية وهدّدته بأنه سيدفع الثمن «شخصياً» أيضاً. وعندما راجع مبعوثوه الأميركيين سمعوا التحذيرات ذاتها، لكنهم فهموا كذلك أن «التعاون» خيار مفتوحٌ أمامه إذا حسم موقفه من إيران وإذا أراد إنقاذ سلطته ونظامه. لم يهمل النظام هذا العرض الأميركي (- الإسرائيلي) لكنه لم يعتبره عاجلاً، ومع خشية النظام من حصول مواجهة إيرانية – إسرائيلية كان يعتقد أن الروس لن يسمحوا بتوسّعها داخل سورية وسيتدخّلون لاحتوائها، وبالتالي يمكنه أن يستفيد من تلك المواجهة لأن وقفــــــها سيستدعي اتصالات دولية لا بدّ أن يكون هو جزءاً منها، ما ينعش «شرعيته» التي يتعطّش إليها منذ بدأ يلهج بـ «الانتصارات» التي يحقّقها له الروس والإيرانيون. بعد الضربات الجوية التي شنّتها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا (14/04/2018) لمعاقبة النظام على قصفه دوما بالسلاح الكيماوي، وقبل أن يستدعي بــــوتين الأسد إلى سوتشي (17/05)، كان ترامب أعلن في الأثناء الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي (08/05) وبدأت الغارات الإسرائيلية المركّزة على المواقع الإيرانية ثم تكثّفت بالتزامن مع عودة بنيامين نتانياهو من روسيا بعد لقائه مع بوتين.
لم يعد سرّاً مدى ارتباط الضربات الإسرائيلية بالاتصالات والتنسيقات السياسية، وإذ لم تعد كثيفة ومتواصلة إلا أن وتيرتها شبه اليومية مستمرّة وسط تعتيم إعلامي. لا شك في أن الإيرانيين عزَوا، قبل سواهم، فاعلية الضربات واستهدافاتها إلى أن خريطة انتشارهم ومواقعهم العسكرية لم تتوفّر للإسرائيليين بفعل الرقابة الجويّة والتجسس الميداني فقط، بل وُفّرت لهم إحداثياتها الدقيقة. ففي بعض الهجمات مثلاً قُصفت أبنية (كما في مطارات المزّة والنيرب والشعيرات) يشغلها الإيرانيون ولم تتأثر أبنية مجاورة لقوات النظام أو أخرى يستخدمها الروس. هل يُستَنتج من ذلك أن البنية العسكرية الإيرانية في سورية زُعزعت، أو أن الضربات الإسرائيلية كافية لإشعار الإيرانيين بضرورة الانسحاب؟ طبعاً لا، لكن المؤكّد أنهم اضطرّوا لتقليص وجودهم وطيّ خططهم في جنوب سورية، إذ زادت روسيا اهتمامها بهذه المنطقة لتفادي احتمالات المواجهة مع إسرائيل، فكثّفت وجود شرطتها فيها إلى جانب «الفيلق الخامس» الذي بات يعتبر «جيش روسيا» المستقل عملياً عن قوات النظام، وإن لم يُثبت الروس حتى الآن أنهم أرادوا/ أو استطاعوا أن يبثّوا في أفراده «أخلاقية» قتالية مختلفة عن «شبّيحة» النظام.
فيما أظهرت المحادثات الأميركية – الروسية الأولى بعد قمة هلسنكي، أن «التفويض» لبوتين محدود ومشروط، وأن إعادة الإيرانيين إلى إيران هو أبرز الشروط كما أوضح جون بولتون بعد لقائه مع نظيره الروسي نيكولاي باتروشيف، يعكف الإيرانيون حالياً على تعزيز انتشارهم في الوسط والشمال، مركّزين على منطقة الحدود العراقية – السورية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من «ممر طهران – بيروت». في الوقت ذاته، يواصلون تطوير تغلغلهم العسكري – المدني في محافظات حلب وحمص وحماة، ويهمهم أيضاً أن تميل روسيا إلى اجتياح إدلب على غرار ما حصل في الغوطة الشرقية لأنه كفيل بتعقيد الأزمة في اللحظة التي يعتقد الروس أنهم أحرزوا تقدماً في ضبط ملفاتها الثلاثة: الحل السياسي، إعادة اللاجئين، إعادة الإعمار. كل ما يؤجّل إنهاء الصراع في سورية مرحّب به في طهران كما في دمشق، ما لم تحققا أهدافهما. أشار بولتون إلى عدم التوافق مع الروس في شأن إدلب، علماً أن واشنطن قالت دائماً أن ما يعنيها في إدلب هو القضاء على البنية الإرهابية.
في خضم الأزمة الساخنة بين واشنطن وأنقرة، ومع استمرار تعاونهما في منبج، ليس واضحاً ما إذا كان الجانب الأميركي يدعم خطة تركيا في إدلب. لكن الملاحظ أن استياء بوتين من عدم التجاوب الأوروبي في تمويل إعادة الإعمار، ومن بروز الخلافات مجدّداً مع الأميركيين، قد يكون شجّع الروس على تعويم سيناريو الاجتياح، سواء بعودة النظام والإيرانيين إلى حشد قواتهم لإشاعة أجواء عملية عسكرية واسعة، حتى أن الروس استخرجوا فجأة اتهاماتهم السابقة للمعارضة في إدلب بأنها تعدّ لهجوم بالسلاح الكيماوي. صحيح أنهم كانوا يردّون على التحذيرات الأميركية والأوروبية (في الذكرى الخامسة للهجوم الكيماوي على الغوطة عام 2013) إلا أن سجل روسيا الأسود مع الملف الكيماوي جعل اتهاماتها الواهية تهديداً للمدنيين للشروع في إخلاء إدلب، بالتالي إشارة إلى أن الاجتياح لم يعد مستبعداً.
من شأن إيران أن تقرأ في البلبلة حول إدلب، كما في الخلافات الأميركية – الروسية وإنْ مرفقة بتعزيز الاتصالات العسكرية والديبلوماسية، تأجيلاً لبتّ مصير وجودها في سورية. فـ «لحظة إدلب» ليست مناسبة للضغط على النظام أو على طهران كي يحسما أمرهما، خصوصاً أن «التفويض» لروسيا لا يبدو مشجّعاً بل أُرفق بقرار بقاء القوات الأميركية في سورية لمواصلة الحرب على تنظيم «داعش» و «لمراقبة الوجود الإيراني»، أي أنه استعاد منحى الضغط على موسكو التي جدّدت بدورها المطالبة بخروج كل القوات الأجنبية (الأميركية في طليعتها) من سورية. هذا لا ينفي أن محادثات بولتون – باتروشيف استكشفت بعض «الخيارات» للتعامل مع المعضلة الإيرانية، وقد رفض الأميركيون في هذا المجال اقتراحاً روسياً برفع العقوبات عن إيران أو التخلّي عن العقوبات المزمعة على قطاع النفط.
ما الذي يحول دون أن تحقّق الخطط السياسية الروسية اختراقاً؟ أكثر ما افتقده بوتين دائماً هو الرفض الأميركي الدخول في مساومة واسعة تشمل سورية وغيرها، وإذ لام باراك أوباما سابقاً فإنه يبرئ ترامب الآن ليلوم «مؤسسات الحكم» الأميركي. وإذا ترك بوتين المساومة الكبرى جزئياً لينكبّ على الوضع السوري يجد أنه وحلفاءه (النظام وإيران وتركيا) ليسوا قادرين على إنتاج حل حقيقي متكامل للأزمة. فعدا أنهم جميعاً تحت عقوبات أميركية أو غربية فإن إدارتهم للصراع ورّطتهم بمسؤوليات لا يستطيعون تلبيتها مع افتراض أنهم يريدون تحمّلها، بل قادتهم إلى خيار لا مستقبل له وهو الحل المفروض بالقوة، وقد استنبط له نظام الأسد اسماً كاذباً هو «المصالحات».
كان الأميركيون توقعوا أن تتورّط روسيا في سورية كما فعلت في أفغانستان، إلا أن بولتون هو المسؤول الأول الذي قال صراحةً أن روسيا «غارقة» في سورية وأنها «عاجزة»عن إخراج إيران، أي أن إنقاذها لن يكون من دون تنازلات، والبداية بإخراج الإيرانيين. سورية هي المتضرّر الأول والنظام (مع إيران) المستفيد الأول من «الغرق» الروسي. هذا «الغرق» يعتمل لأن بوتين لم يولِ أهمية للترابط الزمني الضروري بين تقدّم عسكري على الأرض وتقدّم سياسي في بلورة حلول ومبادرات، ولا يزال يعمل لتوظيف السياسي الذي يجب أن يكون متوازناً ومنصفاً لمصلحة العسكري الذي يبقى بعيداً من ضخّ أي نوع من الاستقرار سواء لتشجيع اللاجئين على العودة أو لحفز المموّلين على المساهمة في اعادة الإعمار.