يبدو أن المرحلة الرمادية التي يتصف بها الموقف الدولي من معالجات أزمة سورية، سواء تحت عنوان محاربة «داعش» فيها، أم تحت عنوان انتظار ثمار المفاوضات مع إيران حول ملفها النووي ودورها الإقليمي، ستجعل من العراق الميدان الاختباري الأول لقدرة الدول المتخاصمة، والمتناقضة المصالح على التوصل الى توافقات لها أثرها الإيجابي على العلاقات بينها.
ولربما هذا ما جعل الرئيس الأميركي باراك أوباما يقول قبل يومين إن محاربة «داعش» وهزيمته أكثر سهولة في العراق منه في سورية حيث الأمر أكثر تعقيداً.
والواقع أن العراق، بقدر ما يشهد حرباً حقيقية بين «داعش» والجيش العراقي وقوات «الحشد الشعبي»، و «البيشمركة» تحقق نتائج لغير مصلحة التنظيم، هو نقطة التقاء بين دول متعارضة المصالح، أو على الأقل تقف في مواقع مختلفة لمجرد أن بعضها منضوٍ في إطار التحالف الدولي ضد «داعش» وأخرى ليست جزءاً منه وأهمها إيران وروسيا. فلكل من موسكو وطهران أرضية مشتركة تقفان عليها مع دول التحالف في بلاد الرافدين، خلافاً لما هو حاصل في سورية. هذا فضلاً عن أن الحسابات التركية الخاصة في الحرب على الإرهاب، نتيجة طموح أنقرة الى «العودة» الى سورية كدولة نافذة في إطار الجغرافيا السياسية في الإقليم، لم تمنعها من الانسجام مع «منافسيها» المفترضين في العراق، نظراً الى تقاطع مصالحها مع التحالف، في الدولة التي يجاورها الجزء الكردي منها.
بات من البديهي أن ما جمع بين الدول المتخاصمة في العراق هو بداية تعديل في السلطة السياسية فيه، تمهيداً لمسار يعيد التوازن بين مكوناته في توزيع الشراكة في بغداد، خلافاً لما كان عليه الأمر إبان حكم نوري المالكي. وهو أمر ما زال بعيداً في سورية. ولعل الأمل بتعميق هذا التغيير الذي كان أحد مظاهره أخيراً الاتفاق بين القيادة الكردية والحكومة العراقية على النفط والخطوات العسكرية حيال «داعش»، يجعل التعاون بين المحورين المختلفين قابلاً للصمود. لم تكن المرة الأولى التي تقصف طائرات إيرانية مواقع لـ «داعش»، بموازاة قصف الطائرات الأميركية والفرنسية والبريطانية هذه المواقع. وفي المرات السابقة التي نفذ الطيران الإيراني غارات كهذه، لم تسرّب واشنطن الخبر. وهي لم تعترض على قيام ما يسمى «خبراء إيرانيين» بقيادة قائد فيلق القدس قاسم سليماني، بالقتال الى جانب قوات «الحشد الشعبي» أي الميليشيات الشيعية ضد «داعش»، على رغم التجاوزات الطائفية والمذهبية في قتالهم. فما تسعى إليه واشنطن بدعم خليجي هو قيام جيش منظم من العشائر السنية، من 50 ألف مقاتل، بموازاة تهيؤ دول الخليج لتعزيز انفتاحها على حكومة بغداد بقيادة حيدر العبادي على طريق عودة العراق الى «الحظيرة» العربية، أو عودة العرب الى بغداد. فالتحولات في العملية السياسية بالتناغم مع الحرب على «داعش»، مع كلفتها العالية في بلاد الرافدين، سترتب شراكة عربية لإعادة إعمار العراق من النواحي كافة لا بد للدول العربية من أن تلعب دوراً فيها. وبهذا المعنى يعيد تصحيح التوازن العراقي الداخلي تصويب التوازن الإقليمي- الدولي في العراق، وهو تصويب يمهد لتكريس تسوية سياسية فيه على نظامه الفدرالي بين المكونات الثلاثة، الكردي، الشيعي والسني.
تبدو سورية بعيدة جداً من الاختيار العراقي الذي يمكن أن يكون نموذجاً لما يمكن السعي إليه في التسوية في بلاد الشام: شراكة جديدة في الحكم مع لامركزية في مناطق النفوذ. فعلى رغم محاولات روسيا اجتراح الأفكار التي توحي بإمكان حصول تحوّل سياسي يساهم في «ائتلاف حكومي» جديد، شبيه بتجربة العبادي، يسمح بمحاربة «داعش» فيها من طريق قوات على الأرض يلح الجميع على وجودها وترغب موسكو وطهران بأن يكون جيش الأسد أساسها، فإن الهدف من هذه المحاولات هو استباق نجاح الاختبار العراقي، لئلا يفرض مقاربة المعضلة السورية باعتبار الأسد نظير المالكي، في وقت يعتبره خصومه الذين تأمل القيادة الروسية بأن يجلسوا معه على أنه نظير العبادي، نظيرَ صدام حسين. والدليل هو البحث في إقامة منطقة آمنة تصر عليها تركيا، من أجل تمكين قوات على الأرض هي «الجيش السوري الحر» من مقاتلة «داعش».
فالنظام السوري لا يحارب التنظيم الذي ساهم في توسعه، بل يقصف، بحجة قصف مواقع الإرهابيين، حتى في الرقة وفي دير الزور، المدنيين، وهو ينتظر الاعتراف به مقابل انخراطه الفعلي في الحرب على الإرهاب، ليضمن القضاء على المعارضة المعتدلة باسم هذه الحرب. التحالف الدولي في واد وروسيا (ومعها إيران) في وادٍ آخر، في ما يخص سورية.
في العراق، فرضت المحاربة الجدية لـ «داعش» قيام توازن في السلطة، وفي سورية يتباهى النظام بأنه أعطى مئات الإحداثيات لطيران التحالف كي يقصف «داعش».
فلماذا لا يقصفها هو طالما لديه هذه الإحداثيات؟