لم تكن المرة الأولى في تاريخ الطيران، وهو حتى الساعة وسيلة للنقل الأكثر سرعة والذي قرّب بما لا يقاس المسافات بين القارات وأقاصي المعمورة، أن تتحطم طائرة ركاب عادية، أو سياحية، كالذي جرى الأسبوع الماضي للطائرة الروسية التي تحوم حولها الشبهات أن سقوطها كان نتيجة انفجار قنبلة.
فبالأمس القريب تحطمت طائرة «اللوفتهانزا» فوق جبال الألب لأن القبطان المساعد على ما كشفت الوقائع والأدلة أغلق بإحكام قمرة القيادة ومضى بها نحو الانتحار المتعمّد.
قيادات سياسية وزعماء دول أيضاً قضوا بالطريقة نفسها في تاريخ النقل الجوي (ضياء الحق في باكستان، سامورا ميتشيل في موزامبيق، جون قرنق في السودان…). وما زالت حتى اللحظة تبحث ماليزيا من دون جدوى عن طائرتها المفقودة في مكان ما في أعماق المحيط الهندي وسط شكوك وتساؤلات محيّرة حول أسباب تغيير مسارها المعتاد نحو بكين.
ثمة احتمال كبير أن الطائرة الروسية التي سقطت فوق شمالي سيناء وهي في طريقها إلى «سانت بطرسبرغ» قد انفجرت أثناء تحليقها وأن قنبلة ما جرى دسها بين أمتعة ركابها الأبرياء. وما يعزز الشكوك أكثر أن الصندوق الأسود بعد تحليل المكالمات التي أجراها القبطان ومساعده حتى لحظة وقوع الكارثة، لم تشر بتاتاً التسجيلات الصوتية إلى أي عطل فني ورد على لسان أي منهما (التقرير الفرنسي الأولي).
إذاً تحوم الشبهات حول الموظفين المصريين وبالأخص عمال الشحن والتوضيب في مطار «شرم الشيخ»، بأن بين صفوفهم من هو مخترق من قبل «داعش« أو «الاخوان المسلمين» في مصر، وهو على الأرجح واضع القنبلة. فإذا كان فعلاً «داعش» وهو الذي ادعى مسؤوليته عن الجريمة قد استطاع اختراق الأمن المصري، فإن من يعرف مصر جيداً يدرك تماماً أن قدرة بهذا الحجم لا يمكن أن تتوفر بهذه السهولة لـ»داعش» إلا من خلال مساعدة وتنسيق كاملين مع جماعة الاخوان داخل مصر.
كل هذا الكلام لم يعد يفيدنا بشيء الآن وسوف تكشف الأيام المقبلة عن المزيد من الإيضاحات الضرورية فقد ضربت الجريمة مصر في الصميم، حتى لو اعتبرنا أن روسيا أيضاً هي المستهدف الثاني. فبوتين حاول امتصاص الضربة أول الأمر وبعد تلكؤ اضطر لاتخاذ قراره بوقف الرحلات السياحية نحو «شرم الشيخ» ويحذو حذو الدول الاوروبية الأخرى بإجلاء رعاياها ووقف الرحلات إلى المنتجع المصري. فالرئيس الروسي ظل أول الأمر يتجنب إلحاق ضرر كبير بالاقتصاد المصري لأنه كرجل استخباراتي عريق يعلم جيداً أن ما من دولة قط على وجه الأرض تتمتع بتحصين كامل حيال الخروقات الأمنية مهما بلغ شأنها.
من البديهي والواضح تماماً أن تفجير الطائرة الروسية يستهدف قطاع السياحة في مصر وهو الذي يشكل مصدراً حيوياً رئيسياً يدر على مصر كتلة نقدية ضخمة بالقطع النادر، بالإضافة إلى توفيره لمئات الألوف من المصريين أسباب الرزق والكسب الحلال.
الأكثر إثارة للريبة والتساؤل بقلق تلك العاصفة الإعلامية التي اكتسحت الإعلام الغربي والعربي ابتداء بأميركا وانتهاء بأوروبا في تركيزها المتواصل على مسؤولية مصر ونظام الرئيس السيسي عن الكارثة، وأن ثمة إهمالاً ما وتقاعساً يشوب الأجهزة الأمنية المصرية، مما سهل وقوع الجريمة المدوية. فإذا كان هذا الخرق وارداً، وهو في أي حال قريب للعقل والمنطق، فإن هذا المعيار نفسه بالإمكان اعتماده في حالات مماثلة بل أكثر فداحة، كتلك التي جرت في 11/9/2001 في نيويورك وتلك التي حدثت في إحدى كبرى صالات المسرح في موسكو عندما أخذ الإرهابيون جميع المتفرجين رهائن لأيام متواصلة، بل بالإمكان أيضاً التذكير هنا بتفجيرات محطات قطارات لندن وباريس ومدريد… حيث كان الاعتداء مباشراً وفي وضح النهار. يومها لم تقم قيامة إعلام تلك البلدان ولا جرى تحريض الرأي العام هناك كالذي يجري في منطقتنا الآن.
الأسوأ من ذلك عندما وجدت بعض الأنظمة العربية اللاهثة عبثاً وراء نفوذ موهوم في أرض الكنانة من خلال تعاطفها الانتهازي مع الاخوان المسلمين في الحادثة البشعة، فرصة سانحة للربط بين الخرق الأمني المحتمل ومعركتها الإعلامية ضد النظام المصري. لا بل ذهبت أبعد من ذلك عندما، في حمأة الدوي الإعلامي العالمي الذي نجم عن السقوط الملتبس للطائرة الروسية وما ولّدته من مخاوف وتداعيات قد تستهدف السيّاح الغربيين، راحت تتحدث عن احتمال مزعوم لمنع الرئيس المصري من زيارة بريطانيا، وعن إمكانية محاكمته كمجرم حرب إلخ… وقد استندت في ادعاءاتها إلى معارضة حزب العمال البريطاني للزيارة، حيث لم يكن ذلك سوى في إطار اللعبة التقليدية للمعارضة العمالية بوجه حكومة المحافظين. أضف إلى ذلك تظاهرة محدودة نظمتها جماعة الاخوان المقيمين في العاصمة البريطانية انتهت بحراك مع تظاهرة أخرى مؤيدة للرئيس السيسي.
إن ما يعنينا من كل هذا الصخب الإعلامي وهذا التحريض المتواصل على مصر، وبخاصة بعد وقوع الحادثة هو قدرة مصر على تجاوز تداعيات وعواقب هذه الجريمة المنظمة، لأنها تستهدف ضرب الاقتصاد المصري من خلال تراجع وبوار قطاع السياحة فيها، وإثارة اللغط بل الذعر على خلفية أن مصر ليست بلداً آمناً وأن توظيف الرساميل فيها مغامرة خطرة.
لقد بلغت الحملة الإعلامية على النظام المصري كل مبلغ عندما اعتدّت بالإقبال المتدني في نسبة المقترعين في المرحلة الأولى من الانتخابات التشريعية الأخيرة وذلك لأسباب لا علاقة لها بالأمن، بل ذهبت في غلوّها التحريضي لحد استغلال الفيضان الناجم عن تساقط غير عادي للأمطار في الاسكندرية، ولم تنس قط توجيه الاتهامات للقاهرة حول إجراءاتها الاحترازية بإغراق الأنفاق المحاذية لقطاع غزة بالمياه، للإيحاء بأن النظام المصري الجديد يساهم مع إسرائيل في حصار غزة وأنه معاد للشعب الفلسطيني.
ماذا نستنتج من كل ما عرضناه؟ الاستنتاج المباشر والرئيسي هو أن مصر ما زالت مستهدفة وأن قوى الإرهاب والثورة المضادة لم تلق السلاح بعد في معركتها الضارية الشرسة ضد النظام المصري الجديد. إنها لم تدرك بعد أن المأثرة التي حققتها التظاهرة الطوفانية العملاقة في 30 حزيران (يونيو) عام 2013 التي أطاحت بحكم الاخوان العبثي الأخرق الذاهب بمصر يومها إلى الهلاك، والتي عبر عنها الدستور المصري المتنور الجديد والتي حملت عبر الانتخابات الديموقراطية إلى السلطة بالرئيس السيسي وفريق عمله الواعد والقادر على استنهاض مصر، لن تعود إلى الوراء.
لقد أحدقت بمصر المخاطر والحملات من كل جانب. فالإرهاب الدموي الذي لجأ إليه جماعة الاخوان المسلمين والذي راح يضرب في طول مصر وعرضها، عبر التفجيرات والاغتيالات وأعمال التخريب مستهدفاً المرافق العامة من وزارات وإدارات وسكك حديد ودور عبادة على أصنافها ما زال ماضياً في مشروعه التدميري. فلم يترك الإرهاب سانحة على الصعيدين الداخلي والخارجي إلا وانتهزها. فمن كيل الاتهامات للرئيس السيسي والجيش بالوصول إلى السلطة عن طريق الانقلاب العسكري، إلى التشكيك بنزاهة القضاء، إلى التهديد المتواصل باغتيال القضاة وقادة الشرطة والأمن ورجال الصحافة وأهل القلم والفنانين إلى تنفيذ وعيدهم بحق العديد من هؤلاء اعتقد الاخوان أنه بمقدورهم إقحام مصر مرة أخرى في كابوسهم الرهيب. وكم كان مؤسفاً أن تتورط حماس في غزة وسيناء في مشروع دموي كهذا، وأن تنبري حكومة أنقرة لتشارك في حملات التحريض، وأن يتورط في كل هذا الإعلام القطري.
والآن بعد أن وجد تنظيم «داعش» ملاذاً في الفوضى الليبية حيث يقترف أبشع الجرائم كما هي عادته في سائر البلدان العربية، ها هو يمد العون لحليفه الاخوان المسلمون، من القاهرة إلى سيناء فشرم الشيخ…
إلا أن لمصر أصدقاء أقوياء رأينا وما زلنا أنيابهم في «عاصفة الحزم»، فلن تهزم مصر وشعبها. فالطائرة الروسية المنكوبة لن تنل من حق المصريين في الحياة الكريمة.