عندما أعلن رسمياً منذ أسابيع عن التدخل العسكري الروسي في سوريا فإن أموراً كثيرة في المنطقة العربية قد تغيرت أو أقلّه أصبحت تتطلب، وفي الحال، إعادة نظر ومراجعة. فقد بدأت وسائل الإعلام، والروسية منها بامتياز، تنشر صور الطائرات الروسية في مرفأ طرطوس، وبدأت وكالات الأنباء تتحدث عن تواجد خبراء واختصاصيين روس واحتمال قدوم قوات روسية وشيك.
أمور كثيرة أصبحت حقاً بحاجة إلى مراجعة وإعادة قراءة وتعديل. فروسيا ليست فقط دولة إقليمية وازنة يحسب لها حساب كتركيا وإيران ومصر والسعودية وإسرائيل، بل دولة عظمى تملك ترسانة نووية ضخمة تحرسها أساطيل جوية وبحرية وجيوش منشورة من الباسيفيك حتى البلطيق والبحر الأسود فالمتوسط. وهي عضو دائم في مجلس الأمن تتمتع بحق النقض (الفيتو). وروسيا هي التي سارعت منذ نيسان (أبريل) عام 2011 لإرسال شحنات الأسلحة والعتاد والذخيرة لنجدة النظام الأسدي الذي كان قد اتخذ قراره التاريخي بمواجهة الحراك الشعبي السوري المطالب بالإصلاح باللجوء إلى القوة العسكرية وإطلاق النار وسط موجة عاتية من الاعتقالات والتوقيفات بل بإنزال الزمر العسكرية الدموية إلى الشوارع وزرع الرعب في صفوف المتظاهرين المعارضين.
روسيا هي التي كانت منذ بدايات شروع نظام طهران الملالي بإنشاء أول مفاعلاته النووية في ناطنز وبوشهر قد انبرت لتلبية مطالب النظام هناك بتزويده بالتجهيزات والتقنيات والخبراء والعلماء الروس في مجال الطاقة النووية مقابل كتلة نقدية ضخمة من القطع النادر الذي كانت روسيا بحاجة ماسة له بعد سقوط الاتحاد السوفياتي (1989) وما رافق هذا الحدث الطاغي من تقشف وندرة في السلع الاستهلاكية وفوضى عارمة ضربت مختلف القطاعات. وبفضل بيعها إنتاج النفط سلفاً عبر عقود تجارية لسنوات مقبلة لكل من الصين واليابان والهند استطاعت طهران توفير أثمان الدعم الروسي المنشود. لا بل استطاعت روسيا الجديدة وقد خرجت من حربي الخليج (1990) و(2003) صفر اليدين، أن تعوض ما فاتها من بيعها السلاح وهي ثاني بلد بعد أميركا في هذا المجال، بفضل حاجات إيران العسكرية بخاصة بعد سقوط صدام حسين. إنها تسعى لاستعادة نفوذها في منطقتنا العربية.
إن النظام التوتاليتاري الأسدي منذ أيام الأسد الأب كان يرزح تحت ديون باهظة للاتحاد السوفياتي ثمناً للسلاح من المرجح أنها تصل إلى ما لا يقل عن 13 مليار دولار، كان حافظ الأسد يعمل على تأجيل موعد تسديدها، لا بل ورث نظام بشار هذه التركة الثقيلة، تماماً كما ورث ما لا يحصى من المتاعب والمشكلات الأخرى وكان الملف اللبناني يتصدر هذه المشكلات، هذا الملف الذي بعد أن كان مصدراً للمنافع والمكاسب والخدمات التي كان يجنيها نظام دمشق من خلال وصايته على لبنان، قد تحول بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري إلى دليل اتهام دائم بوجه النظام الأسدي خصوصاً بعد انتفاضة 14 آذار واضطراره لسحب قواته مكرهاً من لبنان.
انطلقت باكورة الربيع العربي من لبنان كمشروع سياسي وطني ديموقراطي استقلالي بوجه مشروع آخر مناقض له تماماً هو المشروع الإيراني الأسدي. فأنظمة العسكر أو تلك التي تستند بنشأتها وتسلقها وتربعها على السلطة إلى البزات العسكرية بدت منذ ذلك الحين في أزمة مستعصية، بخاصة بعد فقدانها أحد أهم ذرائع استمرارها في الحكم: الورقة الفلسطينية. فقد أدى نشوء السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، الورقة الفلسطينية. فقد أدى نشوء السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، عملياً إلى اضطلاع الفلسطينيين أنفسهم بمهمة المفاوضات مع سلطة الاحتلال.
توالى سقوط الأنظمة العسكرية في تونس ومصر وليبيا واليمن في الوقت الذي لم تستطع روسيا ولا حليفتها إيران جني أي ثمار قط من هذه التطورات المثيرة، ولا تحقيق أي مكاسب لضمان مصالحها وطموحاتها الجيواستراتيجية. فكان جلّ ما استطاعت طهران إنجازه هو الانسحاب التدريجي للقوات الأميركية من العراق ليتحول إلى محمية إيرانية بموافقة أميركية.
تحولت سوريا يومها (ومن ورائها لبنان) إلى الساحة الفعلية التي يحتدم فيها الصراع. وهو صراع تناحري مدمر بين طموحات النظام الإيراني ومن ورائه روسيا من جهة والدول العربية التي، وبصرف النظر عن تعثر الأنظمة الجديدة التي أرساها الربيع العربي، أحست بخطر داهم يتهددها من الشرق من جهة أخرى. ولم تنجح أي مساع عربية أو دولية قط في وقف النزيف السوري ولا بالوصول إلى حل سياسي من شأنه الحفاظ على وحدة سوريا ومؤسساتها الوطنية، لا بل فاقم في حدة الصراع وتشعبه وانتشاره السياسة العقيمة التي دأبت إدارة الرئيس الأميركي أوباما على المضي فيها، فهي التي على خلفية اعتبارها النظام الإيراني اللاعب الإقليمي الرئيسي وأن الوصول معه إلى اتفاق نووي تاريخي مشهود راحت تغرق في سلسلة من الأخطاء الاستراتيجية القاتلة، فهي التي أدارت ظهرها للمعارضة السورية وحجبت عنها السلاح النوعي، وهي التي قدمت لبشار الأسد خشبة الخلاص من الغرق المحتوم بعد مجزرة الغوطة الشرقية (آب 2013)، وهي التي أظهرت ضعفاً فاضحاً في اتفاق لافروف كيري وهي التي لم تواجه بحزم إفشال جنيف-2 كي تستمر الحرب السورية وهي التي سكتت أمام تدفق قوات الحرس الثوري الإيراني ومقاتلي حزب الله اللبناني وسائر الميليشيات المذهبية إلى سوريا، وهي التي كانت تتجاهل نشاط نوري المالكي وبشار الأسد في استنبات وإطلاق الإرهاب الآخر الدموي «داعش».
لا بل في المقلب الآخر، اكتفت سياسة «أوباما» في أوكرانيا بالزعاق والتنديد اللفظي بعد ضم القرم إلى روسيا وتورط موسكو في القتال في دانيتسك لشق أوكرانيا. بل أبعد من ذلك كانت واشنطن على علم بكل الاستعدادات والتحضيرات الجارية في اليمن على يد الحوثيين صالح حيث كانت تتدفق الأسلحة والذخائر الروسية والإيرانية لتفجير حرب «ما وراء البحار» لكسر العناد العربي في رفض الهيمنة الإيرانية على المنطقة العربية، بغية تحويل حرب اليمن إلى حرب استنزاف للنيل من التحالف العربي.
أسقط في يد بشار الأسد، بل راحت تنهار قدرات جيش نظامه في مواجهة فصائل المعارضة وتفككت سوريا إلى كيانات تحكمها الفصائل المسلحة والقوى المحلية. وتبين على أرض الواقع عجز التحالف الإيراني العريض عن كسر المعارضة السورية. وهكذا شهدنا قدوم آلة الحرب الروسية بذريعة مواجهة الإرهاب. إلا أن إرهاب «داعش» ليس سوى الذريعة والمسوغ والمبرر لأن الوقائع الميدانية تثبت أن المعارضة السورية هي الهدف والمبتغى من القصف الروسي المتواصل.
والآن تدعو موسكو المعارضة للحوار مع الأسد، لكنها في آن معاً ما زالت تصر على دور ما له في المرحلة الانتقالية، بل في آن معاً تطلق تصريحات متناقضة لحد الذهول من قبيل تجاهل وجود الجيش السوري الحر، ثم التشكيك بوجود حكومة سورية مركزية فاعلة قادرة على مواجهة الإرهاب، إلى الإيحاء بأن بشار الأسد باق في السلطة ما دام «الشعب السوري هو الذي سيقرر مصيره» إلخ…
التخبط الروسي يبلغ الذروة في اللحظة التاريخية الراهنة فهم يلوّحون بإمكانية الانضمام للتحالف الأممي لضرب «داعش» لكنهم لا يثبتون في اليوم التالي أن يعودوا عن ذلك. رئيس الوزراء الروسي ميدفيديف يصرح بأن روسيا ليست متمسكة ببقاء الأسد لكن بوتين يتحدث عن انتخابات مزعومة تقرر مصيره.
إنها حالة من اللغط الشديد والضباب الكثيف الذي يكتنف منطقتنا العربية، حيث يسود شعور عام أن شيئاً يجري التحضير له في عواصم القرار. إلا أن كل ذلك ليس بمقدوره قط أن يغير شيئاً من جوهر الصراع القائم بين مشروعين: الإيراني من جهة والعربي من جهة أخرى ولا ثالث بينهما.