الدب الروسي يتجول بحرية مطلقة في الأجواء السورية في «أم المعارك» مع تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» وشركاه، فيما «زئير» طائرات «السوخوي» و «الميغ» يملأ الآفاق بعد تلقيها دعوة رسمية للتدخل في العمق السوري وفق تحركات الإرهاب التكفيري، وإصرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الاحتفاظ بـ «حصة الأسد» («الحياة» السبت، 3/10/٢٠١٥).
ونظراً للازدحام الشديد في فضاء سورية من مختلف أنواع المقاتلات من شرق وغرب، فالضرورة تقضي بالتنسيق بين المعسكرين منعاً لأي اصطدام في الأجواء السورية. لذا بادر الرئيس بوتين إلى توجيه دعوة إلى واشنطن للتنسيق في هذا المجال منعاً لأي اصطدام، لكن الولايات المتحدة تباطأت بالرد، ما أغضب سيد الكرملين وجعله يفتح النار على الجانب الاميركي، ومما قاله: «طلبنا من واشنطن تزويدنا بلائحة الأهداف التي تهمهم، لكن الجواب كان لا، نحن غير مستعدين لذلك».
ومضى بوتين قائلاً: «عدنا وطرحنا سؤالاً آخر: قولوا لنا أين يجب أن نضرب؟ لكن لا جواب أيضاً. هذه ليست مزحة، فكيف يكون ممكناً العمل معاً؟
ولشدة غيظه من اللامبالاه، استشاط غضباً وقال: «أعتقد أن بعض شركائنا مصابون بتشويش ذهني، وليس لديهم أي فهم واضح لما يجري حقيقة وما هي الأهداف التي يسعون إلى تحقيقها؟». وتعرض إلى «العملية المجوقلة» الخاصة بإلقاء الأسلحة إلى معارضي الرئيس الأسد بقوله: «إن الائتلاف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة أعلن عن إلقاء كميات من الذخيرة والعتاد من الطائرات لدعم الجيش السوري الحر، فأين هي الضمانات بأن هذه الذخيرة والعتاد لن تقع مجدداً في أيدي إرهابيي «داعش» كما حصل أثناء تدريب قوات أخرى للمعارضة السورية»؟
وحقيقة الأمر ان الطائرات الاميركية التي ألقت 50 طناً من الأسلحة والذخائر لمجموعات مقاتلة من الأكراد، سقط ما ألقته في موقع آخر. ووجد بوتين المناسبة للنيل من قوات التحالف فقال: «إن عمليات الائتلاف الدولي الذي شن أكثر من 500 غارة على الأراضي السورية منذ أكثر من سنة لم تسفر عن نتائج تذكر».
وأضاف: إن روسيا لا تسعى إلى الزعامة في سورية في أي شكل من الأشكال وإنما إلى المساهمة في مكافحة الإرهاب الذي يهدد الولايات المتحدة وروسيا والدول الاوروبية والعالم برمته… وكل العمــليات الروســـية تنفذ مع مراعاة صارمة لميثاق الامم المتحدة والقانون الدولي، وهذا ما يميز الحملة الجوية الروسية في سورية عن الغارات التي يشنها الائتلاف الدولي الذي يعمل من دون تفويض مجلس الأمن وموافقة السلطات السورية».
من الواضح أن العملية «الانتخابية» الروسية أججت العلاقات بين موسكو وواشنطن بما يذكر بعهود الحرب الباردة. آنذاك كان اندريه غروميكو وزيراً للخارجية السوفياتية وبقي لفترة طويلة، لكن من يتولى وزارة الخارجية حالياً سيرغي لافروف يقوم بأدوار ديبلوماسية بارزة، وقد تابعت له عدة مواقف وسجلت له تصريحات ذات دلالات معينة. فقد قال في استقباله المبعوث الخاص للأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا في موسكو: «أكدنا مراراً أن حملتنا التي جاءت استجابة لطلب الحكومة السورية لا تعني جعل العملية السياسية تدخل طي النسيان. على العكس، هناك من يقول إن عملية سلاح الجو الروسي تعرقل العمل السياسي لكنني واثق من أن المراقبين الموضوعيين يرون بوضوح أن مثل هذا الربط يحمل طابعاً اصطناعياً. لقد دخلنا مرحلة حرجة مرتبطة بالجهود المبذولة لتسوية الأزمة». وطرح في حديث لقناة «ان- تي- في» الروسية أن «موسكو لا تشك في أن جزءاً كبيراً من الأسلحة التي ترسلها واشنطن إلى المعارضة السورية يقع في أيدي الإرهابيين».
ولمزيد من الصدقية، كشف الجنرال ايغور كونا شينكوف أن طائرات من نوع سوخوي 34 و24 و25 نفذت خلال 24 ساعة 88 طلعة قتالية وضربت 86 موقعاً للبنية التحتية التابعة للإرهابيين في الرقة وحماه وادلب واللاذقية وحلب.
وقد لاحظت وأنا أتابع المؤتمر الصحافي للوزير لافروف في الامم المتحدة أنه أشار إلى «ان العلويين في سورية يتعرضون للاضطهاد كما سائر الأقليات»، وهذه هي المرة الأولى التي يصدر مثل هذه التسمية عن الجانب الروسي. وفي سياق متصل، لوحظ أن الرئيس بوتين كرر عبارة: «عدم خوض حرب دينية في منطقة الشرق الأوسط»، مضيفاً: «نحن لا نتدخل في الخلاف القائم بين السنة والشيعة».
ويبدو أن بيان الكنيسة الارثوذكسية في موسكو في تأييد التدخل الروسي حرك حساسيات طائفية يغلي بها الشرق الأوسط، خاصة الآن.
وحول انخراط روسيا عسكرياً، صدر العديد من ردود الأفعال نتوقف عند أبرزها:
– قال بوتين ولأول مرة، وأيده وزير خارجيته، إن تدخل روسيا بالطيران تم «لمنع تقسيم سورية».
ويقابل هذا الكلام قول يشير بوضوح إلى أن مسار الأحداث قد يفضي إلى تغيير جذري جيو سياسي يقوم على التالي:
– طالما أن الرئيس الأسد لن يتمكن من استعادة السيطرة على كامل أجزاء سورية، يبقى «الخيار المزدوج»: سورية تجمع الأسد ومناصريه في جغرافيا محددة، فيما يتنازع باقي الأجزاء السورية من ستكون له الغلبة: بين «داعش» ومعارضات لم تتمكن حتى الآن من تقديم وجه بارز يتمتع بصدقية معينة.
– ويرى اميركيون ممن تعاطوا في السنوات الأخيرة مع «العامل السوري»، أن الاحداث الجارية لن تنتهي بمنتصر ومهزوم بل بمنتصرين ومهزومين معاً.
كيف؟ سورية الأسد وجيشه العقائدي الذي لن يعلن ولاءه لأي طرف آخر،»وسورية الأخرى» غير الواضحة المعالم حتى الآن.
ونحن في هذه المعلومات لا نسوّق لمشروع تقسيم سورية إطلاقاً، لكن التعاطي مع الواقع هو ما يقدم صورة عملية وصحيحة. فأي تغيير في الخريطة لا يهم فقط الداخل السوري بل ستكون له انعكاسات وترددات على عدد من دول المنطقة وخاصة دول الجوار.
ونذكّر بالحوار الذي جرى بين الأسد ووزير خارجية تركيا (في حينه) أحمد داوود اوغلو، بعد اجتماعهما على مدى ست ساعات ونصف الساعة.
قال اوغلو: أحمل لك ما يردده الرئيس اردوغان من أنه كان يتمنى ألا يتم تقسيم سورية في عهدك.
رد الأسد: سلم على رئيسك اردوغان وأبلغه: إذا ما تم تقسيم سورية فلن يقتصر الأمر عليها فحسب، بل إن دولاً عدة سيزحف إليها التقسيم وفي طليعتها تركيا.
ومعلوم أن العاصمة التركية انقره شهدت أخيراً تفجيراً إرهابياً كبيراً أسفر عن مقتل ما يقرب من مئة شخص وجرح المئات، ما أضعف الرصيد الشعبي للرئيس التركي اردوغان الذي فشل في الانتخابات الأخيرة في الحصول على الأكثرية، ويستعد للانتخابات الجديدة التي ستجرى خلال أيام قليلة، لكن الأمل يتضاءل بإمكانية حصول «حزب العدالة والتنمية» على أكثرية تمكنه من تأليف حكومة جديدة، وقد يضطر للاعتماد على الاحزاب المعارضة التي حققت في الانتخابات الأخيرة نتائج بارزة. وكل هذا يعني أن الغالبية الشعبية لم تعد توافق على سياسات اردوغان بما فيها الموقف من سورية.
كذلك قالت مجموعة الدول الاوروبية في بيان رسمي: «إن هذا التطور أحدث تغييراً أساسياً في اللعبة»، والسؤال: ما هي هذه اللعبة، واستطراداً: ما بديل هذه الخطة ومن هي الجهة المنفذة لها؟
ويبقى مصير الأسد من النقاط الرئيسة المختلف عليها، حيث تقول روسيا: «دعوا مصير الأسد يقرره السوريون في انتخابات عامة». ومصير الأسد، وغيرها من القضايا المعلقة متروكة للتطورات المرتقبة خلال الشهور القليلة المقبلة، عندما يتضح ما الإنجازات التي حققتها روسيا على صعيد محاربة «داعش» وسائر المجموعات الإرهابية. ويقول مصدر روسي بارز لـ «الحياة» ان الموقف الروسي يستهدف بالدرجة الأولى «تقليص إمكانات «داعش» والتنظيمات الارهابية الأخرى، لكن بوتين حذر جداً من أن يتحول الوجود الروسي في سورية إلى «حرب استنزاف»، وهذا ما لا تريده غالبية الشعب الروسي». ويضيف: «إن التقدير الذي وضعه بوتين مع القادة العسكريين يتطلب «إنجاز المهمة» في قصف إرهابيي «داعش» ما بين أربعة إلى ستة شهور». ونسأل: ماذا إذا لم يحدث ذلك؟ جواب: «عندها لكل حادث حديث وهذا يعني التغيير الجذري المنتظر في المنطقة والذي سيبدأ من سورية، والعراق استطراداً».
وهل هذا يعني حل… التقسيم؟ لا يلتزم المصدر الروسي بجواب محدد ويكتفي بتكرار القول إن وجود القوات الجوية الروسية في الأجواء السورية يمكّن أفراد الجيش السوري النظامي الذي لا يزال موالياً لسلطة الأسد من القيام بعمليات أكبر وأوسع في البر السوري (وهذا ما لوحظ فعلاً في الأيام الأخيرة)، وكأن الغطاء الجوي الروسي يؤمن الفضاء، فيما القوات البرية تتابع تعقبها لمقاتلي «داعش» و «النصرة».
وإذا كان التدخل الروسي قد يؤدي إلى إنقاذ نظام الأسد، فبوتين يصر على المضي في هذه «الحرب الاستباقية» خشية أن ينتقل مقاتلو «داعش» أو غيرهم من التنظيمات الارهابية إلى الداخل الروسي. والخشية الأساسية لموسكو هي أن ينضم إرهابيو سورية لإرهابيي روسيا من بقايا حرب الشيشان إلى مقاتلين آخرين ضد السلطة المركزية في الكرملين.
وبعد…
في اتصال لي مع المستشار السابق للأمن القومي الاميركي الدكتور زبغنيو بريجينسكي، يقول إنه «أيد الرئيس باراك اوباما بالامتناع عن استخدام القوة في المأساة السورية»،
مضيفاً: «إن اللجوء إلى القوة الاميركية في إطاحة الأسد ليس من المنطق في غياب الإجماع المحلي في سورية واميركا على حد سواء».
ويطرح بريجينسكي التصور التالي: «التدخل العسكري الروسي يسهم في تسليط الضوء على العجز السياسي الاميركي، وبالتالي مستقبل المنطقة وصدقية الاميركيين في أوساط دول الشرق الاوسط ووضعها على المحك».
إذاً ما الاقتراح الممكن؟ يرد بريجينسكي: «لا تملك الولايات المتحدة غير خيار واحد: دعم مصالحها في المنطقة، ودعوة موسكو لوقف الأعمال العسكرية التي تؤثر مباشرة على المصالح الاميركية وعدم منع روسيا من حقها في دعم الأسد».
ومن دون إعلان ذلك، يخشى مستشار الامن القومي السابق «أن تنتشر الفوضى الاقليمية إلى الشمال الشرقي وتتفشى عدواها في آسيا الوسطى وشمال شرق آسيا وألاّ تنجو الصين وروسيا من ارتدادات تفشي العنف والفوضى، ما يلحق الضرر بمصالح اميركا وأصدقائها ويقوض الاستقرار الاقليمي. لذا آن أوان التحلي بجرأة استراتيجية».
هكذا يفكر الاستراتيجيون على المدى القريب والمتوسط والبعيد. وعندما يتكلم بريجينسكي يجب الإصغاء له، فهو الأول الذي توقع انهيار الاتحاد السوفياتي قبل انهياره بثلاث سنوات.
ونخلص من هذا العرض إلى أن أزمة سورية ليست محصورة بحدودها فحسب، بل إن مخاطر ما يجري تتخطاها إلى أبعد من ذلك بكثير.
وأخيراً: ألا تذكرون أن»الاتفاق النووي الايراني قد بدأ سريان مفعوله؟