Site icon IMLebanon

التدخل الروسي لتعويض الفشل الإيراني في سورية

منذ بداية الأزمة في سورية انشغل النظام بهاجسيَن: ضرورة إخماد الانتفاضة بحسم أمني يبقي سطوته وهيبته في الداخل، وسرعة الانتهاء من الأزمة لاستعادة دوره الإقليمي. لم يحقق أياً منهما. لذا اندفع نحو العسكرة التي ارتدّت عليه وكادت تسقطه لولا أن حلفاءه – وخصومه – توافقوا على تمديد بقائه، ثم لجأ إلى الإرهاب الذي ساعده إلى حين ثم ارتدّ عليه أيضاً بمجيء تحالف دولي لضرب تنظيم «داعش» من دون قبوله كـ «حليف»، ولا حتى قبول إيران أو روسيا اللتين توصّل التنسيق بينهما إلى إقناع موسكو بالتدخل الميداني المباشر، وليس بهدف إنعاش النظام فحسب بعدما بدا متهاوياً بل إعادة تأهيله من خلال ضغط روسي لتغيير استراتيجية الحرب على «داعش» كي يُصار فيها إلى التعاون مع النظام وربما مع إيران وميليشياتها. ولعل وجود لعبة دولية وتنافس غربي – روسي على سورية يُشعر النظام بأن الصراع عاد أخيراً إلى الإطار الذي يفضّله، معتبراً أن أي حلّ ينبثق من هذا التنافس لا بدّ أن يضمن بقاءه، خصوصاً أنه أكثر جاهزية للمساومات بفضل حلفائه، ثم أن حلفاءه وخصومه الدوليين ساهموا معه في إدامة المعارضة مشرذمة عسكرياً وسياسياً كما في عدم مساعدتها على بلورة بديل من النظام.

يترافق بناء الوجود الروسي العسكري في سورية بتكهّنات متفاوتة سلباً وإيجاباً، لأن موسكو لا تكشف نياتها ولا أوراقها. لديها دوافع لمحاربة الإرهاب لكنها أساساً لتدخلها الحالي، ثم أن طريقتها في إقحام نفسها على حرب قائمة منذ عام تتسم أيضاً بانتهاز الفرصة لتحدّي الولايات المتحدة، إذ تسلّط الضوء على «اللاجدوى» البيّنة والنتائج الهزيلة للضربات الجوية لـ «التحالف»، غير أن الخطط الروسية المفترضة لن تكون أكثر فاعلية إلا بحملات تقوم بها قوات برّية لاستثمار مفاعيل الضربات الجوية. لا شك أن دخول تركيا أخيراً هذه الحرب وإبرامها اتفاقاً خاصاً مع أميركا والإعلان عن «حرب شاملة» وشيكة على «داعش» لعبت دوراً في تسريع القرار الروسي، باعتبار أن دمشق وطهران أبلغتا موسكو أن شمال سورية سيقع في أيدي الأميركيين والأتراك، أي في أيدي «الناتو»، من دون أن تتمكّنا من مواجهتهم، وبالتالي إذا كانت روسيا تنوي التدخل فإن هذه هي اللحظة الحاسمة. بديهي أن الروس وجدوا أن تفاهمهم مع الأميركيين – على الخطوط العريضة لـ «الحل السياسي» وعلى قيادتهم الخطوات الأولى لهذا «الحل» – لا قيمة له إذا لم يكن لهم وجود عسكري وازن على الأرض لحماية «أوراقهم» واستخدامها في الوقت المناسب.

بمقدار ما يظهر التدخل الروسي مستنداً إلى تنسيق عميق مع إيران، وتغطية شكلية من «شرعية» يدّعيها النظام، بمقدار ما يبدو هذا التدخل إقراراً بعجز طهران ودمشق، أولاً عن حسم الصراع عسكرياً، وثانياً عن استدراج مساومة دولية وتسريعها للحصول على صفقة مبكرة تضمن لهما «دولة الساحل» التي لا تزال هدفهما النهائي. ذاك أن أي ترتيبات تمسّ بالجغرافية السورية أصبحت تتعلّق أيضاً بالوضع الإقليمي عموماً، لذا يفضّل الأميركيون التباحث فيها مع الروس لا مع الإيرانيين وحدهم، على رغم تأكيد مصادر عدة وجود تواصل سرّي، أميركي – إيراني، في شأن الملفات الإقليمية. وفي أي حال يرى مراقبون أن التدخل الروسي ألقى ظلالاً على الدور الإيراني الكبير في سورية، ليس فقط لأنه اضطرّه لاعتراف غير مباشر بمحدودية نفوذه «الامبراطوري» أو لأنه فعّل شراكة أخرى يراهن عليها النظام، بل خصوصاً لأن الدور الروسي ازداد أهمية أخيراً لارتباطه بتفاهمات مع أميركا وكذلك مع دول عربية، وكذلك لأن روسيا تعمل بخطتها ولأهدافها التي قد تلتقي مع بعض وليس كلّ أهداف إيران والنظام.

لم يخرج التحرك الروسي حتى الآن عن إطار ما أعلنته موسكو دائماً من مواقف داعمة للنظام ومعترفة بـ «شرعيته» وحاثّة على التعامل معه، لكن تصاعد التشكيك في أهدافها جعلها مثلاً تكرر صيغة «عدم التمسّك ببشار الأسد» ودفعها أيضاً إلى تأكيد أن دورها ليس «إنقاذ النظام والحفاظ عليه» بل «الحفاظ على الدولة السورية». ولا يُعوَّل كثيراً على هذه الحذلقات اللفظية، فمن الواضح أن لروسيا حالياً أولويات تريد تحقيقها لبناء طوق أمان لقواتها وأسلحتها، فضلاً عن أنها تريد تأكيد امتلاكها الورقة السورية قبل أن تبتّ وجوه التصرّف بها، فما بينها وبين أميركا مجرد تفاهمات على معالجة الأزمة وليس توافقاً على حلّها، ثم أنها ليست مستعجلة لاعتماد الصيغة الذي ذكّر بها وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر خلال اتصاله بنظيره الروسي قائلاً إن التفاهم مع روسيا يقوم على محاربة «داعش» والبدء بعملية الانتقال السياسي «في وقت واحد». وإذ تسعى واشنطن إلى تثبيت هذا التزامن، فقد أطلق وزير الخارجية جون كيري تنازلاً علنياً بأن «رحيل الأسد ليس بالضرورة أن يكون في اليوم الأول أو الشهر الأول…». وكان الروس حاججوا دائماً بأن بقاء الأسد «ضروري» للشروع بالعملية الانتقالية والواقع أن وجوده لفترة غير محدّدة وصفة لتسميم تلك العملية وتعطيلها، والأهم أن وجوده كفيل باعتبار الاستقرار مؤجلاً ومعه كل ما يتعلق بإعادة الإعمار وإنهاض الاقتصاد.

لكن أحداً لا يعرف ما هي السيناريوات الروسية، وما إذا كانت ستحترم تفاهمات أو تعهّدات، ولا أحد يستطيع تأكيد أنها مولجة فعلاً بإنهاء الأزمة السورية. فهذه دولة كبرى تفكّر مثل الدول الكبرى، أي أنها تعتبر سورية جزءاً من ملف أوسع، ولا شيء يمنعها من انتهاز دورها لإحراج أميركا بمساومة أكبر تتناول أوكرانيا وغيرها من الجمهوريات المستتبعة بالإضافة إلى الترتيبات الدفاعية في أوروبا التي عبّرت روسيا مراراً عن انشغال كبير بها كأولوية الأولويات استراتيجياً. من هنا قد يبدو ساذجاً الحديث عن دور لروسيا يقتصر على حل سياسي لأزمة سورية وكأنه مكافأة لها يقنعها بتجاوز البنود الأخرى لأجندتها. فمنذ أعوام يعوّل نظرياً على روسيا لإيجاد بديل للأسد يكون مقبولاً ولو من داخل النظام، وعلى افتراض أن هذا البديل موجود إلا أن الإرادة الروسية لم تكن متوافرة. يقال الآن أن الوضع تغيّر لأن روسيا اقتنعت أخيراً باستحالة استمرار النظام ورئيسه، بل لعلها أرادت بتدخلها المباشر استباق اعتماد «بديل آخر» يأتي به الإيرانيون، ولكن هل تقدم روسيا على هذه الخطوة، ووفقاً لأي جدول زمني، وهل ستمتنع عن المساومة على رأس الأسد طالما أن الفرصة سانحة؟

واقعياً لم تطرأ معطيات جديدة على موقف روسيا لترجّح الوثوق بها، فعدا عن تناقض مصالحها مع مصالح أطراف أخرى معنية بسورية، فإن كل ما قدّمته يبدو صالحاً فقط لتبرير وجودها العسكري على الأرض. وهذا ينتقل بسورية عملياً إلى حال استعمار روسي يتقاسم الوظائف مع الاستعمار الإيراني وقد يتقدّم عليه أو يسعى إلى ابتلاعه. وليس في تجارب التدخل الروسية، سواء في الحقبة السوفياتية أو في ما بعدها ما يفيد بأنها تختلف شكلاً وموضوعاً وممارساتٍ عن تلك التي أقدمت عليها الولايات المتحدة في العراق أو سواه. يكفي التذكير بنموذج الحديد والنار والسفك عديم الرحمة للدماء الذي اتّبعته روسيا في الشيشان حيث حرصت على تركيب حكم خاضع تماماً لإملاءاتها، وبالنسبة إلى سورية لم تكن يوماً مع تغيير النظام، فهو يشبهها ويقوم بالوظيفة التي تتوقعها، وإذا فكّرت بتغيير الشخص أو الأشخاص فلتضمن استمراره في تلك الوظيفة. والأخطر أنها لم تعترف في أي لحظة بالانتفاضة الشعبية ولا بمَن يمثلها، إذ أن الحاصل في نظرها مجرّد تمرّد يجب القضاء عليه لمصلحة النظام.