كثرت في الآونة الأخيرة التكهنات حول مستقبل العلاقات الروسية – الإسرائيلية. ورجح كثيرون من المعلقين، بمن في ذلك بعض المعلقين الإسرائيليين، أن تتجه هذه العلاقات إلى تحسن متزايد وتنسيق متصاعد. واستندت هذه الترجيحات إلى عوامل متعددة منها العوامل الثلاثة التالية: أولاً، التقارب في مواقف روسيا وإسرائيل تجاه إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما. ثانياً، التراجع الملحوظ في الصراع العربي- الإسرائيلي. ثالثاً، العامل الشخصي الذي يتمحور بالدرجة الأولى حول شخصية الرئيس الروسي بوتين وحول نظرته إلى «المسألة اليهودية».
على صعيد العامل الأول، أي الموقف تجاه الرئيس الأميركي الذي يندرج في إطار العلاقات الدولية، من الملاحظ أنه هناك بعض التطابق في عدد من المواقف والقضايا الدولية الهامة والتي تستأثر باهتمام الإدارة الأميركية والتي تعتبر واشنطن الموقف تجاهها مؤشراً على الموقف تجاه المصالح الأميركية. ويحتل الموقف تجاه القضية الأوكرانية، كما هو معروف، مرتبة عالية من اهتمام واشنطن وحساباتها. وعندما أعلنت موسكو ضم شبه جزيرة القرم، وعندما بحثت الأمم المتحدة مشروع قرار بإدانة هذا العمل، توقعت إدارة أوباما أن تتضامن سائر الدول الصديقة -ومن بينها إسرائيل- مع الولايات المتحدة في تأييد مشروع القرار. ولكن إدارة أوباما فوجئت بامتناع إسرائيل عن التصويت على القرار، وهو ما اعتبر في واشنطن بمثابة تصويت ضده. ولم تكتم الإدارة الأميركية غضبها تجاه الموقف الإسرائيلي المحابي لموسكو، فأصدرت الخارجية الأميركية بياناً جاء فيه استغرابها «لاستنكاف إسرائيل عن الانضمام إلى الأكثرية الواسعة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة التي أعربت عن دعمها وحدة الأراضي الأوكرانية».
وبمقدار ما كان للموقف الإسرائيلي من أصداء سلبية في واشنطن، كانت له أصداء إيجابية في موسكو. وبهذا المقدار، أدى الموقف الإسرائيلي إلى تعزيز التوقعات حول «صحوة في العلاقات الروسية- الإسرائيلية» تنقلها إلى مستوى لم يكن معهوداً في السابق. وترافق الموقف الإسرائيلي تجاه المسألة الأوكرانية مع مواقف إسرائيلية متعددة تعمدت فيها إسرائيل توجيه إهانات مباشرة وغير مباشرة إلى الإدارة الأميركية لأنها اتخذت في بعض الأحيان سياسات لا تتقيد تماما بالمواقف الإسرائيلية تجاه الصراع العربي- الإسرائيلي والقضية الفلسطينية. وهذا ما جعل البعض يربط بين نمو العلاقات الروسية- الإسرائيلية من جهة، وبين العامل الثاني الذي أدى إلى رواج التوقعات حول حجم ومدى التقارب بين الجانبين في المستقبل.
على هذا الصعيد الثاني، أي صعيد العلاقات الإقليمية، فقد اتجه البعض إلى الاعتقاد بأن احتدام الصراع الإقليمي بين إيران ودول المجموعة العربية وخاصة في الخليج العربي يدخل عنصراً جديداً على مسرح العلاقات الإقليمية الدولية. فالدول التي كانت تمتنع عن التعاون مع إسرائيل إكراماً للعرب وللفلسطينيين، وتضامناً معهم في وجه التوسع الصهيوني، لم تعد في حاجة إلى التقيد بموجبات هذه السياسة. فهناك فرق كبير بين عام 1967 حينما تضامنت موسكو وباريس مع العرب ضد العدوان الإسرائيلي، فاتخذت الأولى قراراً بقطع علاقاتها مع إسرائيل، وبين الوضع الراهن، حيث يبدو أن التركيز العربي انتقل بكليته إلى الصراع العربي- الإيراني. هذا المتغير يوفر، في رأي متوقعي التطور في العلاقات الروسية- الإسرائيلية، للدول الصديقة للعرب أن تعزز علاقاتها مع إسرائيل من دون أن يؤدي هذا المتغير الأخير إلى تراجع علاقاتها مع الدول العربية. وهذا ما يدفع البعض إلى الإكثار من الحديث عن أهمية الصعيد الثالث الذي يبرز احتمالات نمو العلاقات الروسية- الإسرائيلية.
على الصعيد الثالث، تبرز أهمية العامل الشخصي في التأثير على العلاقات الدولية والإقليمية. وتتمحور الكثير من التقديرات حول دور الرئيس الروسي بوتين وموقفه الشخصي من اليهود ومن اليهودية كدين. فهو في نظر بعض الإسرائيليين الذين يؤيدون تعزيز العلاقات مع موسكو «أقرب رئيس روسي إلى إسرائيل بين سائر الرؤساء الذين تعاقبوا على الحكم في روسيا بما في ذلك بوريس يلتسين». ويقدم هؤلاء دليلاً على ذلك حرصه على إبقاء خطوط التواصل مفتوحة وناشطة بينه وبين الإسرائيليين والزعماء الصهاينة، فقد زار إسرائيل عدة مرات وأكثر من أي رئيس روسي سابق. ويقرظ إسرائيليون بوتين لأنه يقف ضد الإرهاب ولأنه ساهم من ماله الخاص في تمويل المتحف اليهودي ومركز التسامح الديني في موسكو. فضلاً عن ذلك، فإن بوتين لم يكف في لقاءاته مع الزعماء اليهود والإسرائيليين عن التأكيد على أن روسيا سوف تبقى ملاذاً آمناً لليهود خلافاً لبقية المجتمعات الأوروبية التي تشهد صعود النزعة اللاسامية. ويقدم بوتين في تأكيداته هذه أدلة حية على صواب ما يقول، مستمدة من واقع الأقلية اليهودية في روسيا التي يبلغ عددها حوالى 200 ألف، إذ يؤكد أن هؤلاء يعيشون بأمان وطمأنينة يفتقدهما أقرانهم في أصقاع أخرى من القارة الأوروبية.
إن الموقف تجاه بوتين يساهم في خلق مناخ مناسب في إسرائيل للدعوة إلى تنمية العلاقات مع روسيا، وبالتالي في إضفاء بعض المصداقية على التوقعات بصدد قيام علاقات وثيقة وراسخة بين روسيا وإسرائيل. ففي استطلاع نظم بطلب من صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية حول شخصية العام الفائت، فاز بوتين بالنصيب الأكبر من التأييد، إذ بلغت نسبة الذين اختاروه 29 في المئة، بينما لم يتجاوز التأييد للمستشارة الألمانية أنغيلا مركل التي حلت في المرتبة الثانية بعده، نسبة 16 في المئة.
إلى جانب هذه الوقائع والمعطيات التي توحي بإمكان تطوير العلاقات الروسية- الإسرائيلية، هناك وقائع كثيرة أخرى تؤكد صواب هذه التوقعات، ولكن هذا لا يعني أن الطريق مفتوح أمام تحالف روسي- إسرائيلي، فكثير من هذه الوقائع والعوامل عائد إلى الأوضاع السائدة في المنطقة العربية. وهذه الأوضاع تفسح في المجال، كما قلنا أعلاه، أمام الدول الصديقة للعرب لإعادة النظر في علاقتها بإسرائيل.
في غياب موقف عربي متماسك ومشترك تجاه إسرائيل، فإن من الصعب ومن غير المنطقي أن يتوقع المرء استمرار التضامن الدولي مع الدول العربية ومع شعب فلسطين في مستواه السابق. وعندما يحتدم الصراع بين الأطراف العربية، وعندما يحتدم الصراع بين العرب وجيرانهم، وعندما تؤدي مشاريع التدخل الخارجي في المنطقة العربية إلى تعطيل قدرة العرب على التحرك الهادف والمؤثر على المسرح الدولي، فإن من الطبيعي أن يستفيد الإسرائيليون من هذه الفرصة لكي يعززوا مواقعهم الدولية على حساب العرب وعلى حساب قضايا إنسانية عادلة مثل القضية الفلسطينية. ولكن هل تبقى الصراعات العربية- العربية إلى الأبد؟ هل يبقى الصراع مع الدول المجاورة، سواء كانت إيران أم تركيا أم غيرهما، إلى الأبد؟
إن الذين يتوقعون نجاح إسرائيل في بناء جسور قوية مع دول كبرى عرفت بصداقتها للعرب مثل روسيا، يبنون مثل هذه التوقعات على الاعتقاد بأن الوضع العربي الراهن مرشح إما للتدهور أو للبقاء على حاله إلى ما لا نهاية. وهذه التوقعات ليست في محلها، لأنها تنطلق من تجاهل غير مبرر للجهود المكثفة التي تبذل من أجل وقف الحروب والصراعات المسلحة في المنطقة العربية، ولأنها تستبعد كلياً احتمال نجاح هذه المساعي. هذا الموقف يندرج في إطار النظرة الرغائبية المخالفة للعلم وللواقع، إلا إذا اقتنعنا بوهم «الخصوصية العربية» بمعناها البائس والعنصري المغرق في التشاؤم، الذي يحكم على العرب بالعيش في محرقة دائمة ومتفاقمة.