عشية مؤتمر فيينا الأخير بشأن سوريا عمد فلاديمير بوتين لاطلاق رصاصة الرحمة عليه. وكان سبقه بيوم واحد اللقاء الرباعي (اميركا، روسيا، السعودية وتركيا) الذي لم ينفض عن نتيجة ملموسة قط. والحق ان عادل جبير وزير الخارجية السعودي بدا متشائماً في تصريحاته بخصوص نتائج اللقاء الرباعي ومؤتمر فيينا ايضاً. رصاصة الرحمة هذه التي اطلقها بوتين تلخصت بتصريح بوتين الذي يقول فيه انه لا مجال في البحث بمصير الاسد الا بعد التخلص من الارهاب.
ليس هذا فحسب بالنسبة للموقف الروسي من مستقبل الأسد، بل عقب اللقاء الخاطف بين بوتين ـ الأسد. في الكرملين تصريح الرئيس الروسي بأن مستقبل الاسد سيقرره الشعب السوري.
من يقرأ التصريحين في العمق يدرك تماماً حقيقة الأهداف الروسية من تدخلها العسكري وكذلك الخط البياني المرتبط بالأزمة السورية من قبل موسكو. فالحقيقة التي ينصح بها هذا الخط البياني يدل بالتأكيد على ان روسيا ليست بصدد اي مسعى جدي اقليمي أو عالمي لحل سياسي للأزمة السورية. ذلك في المستقبل المنظور على الاقل. لأن روسيا بعد ان أدركت عملياً عجز النظام الايراني وحلفائه في سحق المعارضة السورية، فارسلت قواتها الجوية والبحرية لانقاذ ما بدت طهران عاجزة عن انقاذه.
ان التحليل الموضوعي لتصريحات بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف فيما يتعلق بسوريا يفضح النوايا الروسية الممعنة في الرياء والتلاعب. اولاً لأن التخلص من الارهاب هو مشروع عصي على الانجاز الفعلي في المستقبل المنظور. لأن الارهاب يستقي منابعه من البيئة الحاضنة أو التربة الخصبة التي يوفرها له الصراع المذهبي القائم الآن في المنطقة العربية. وهذا الصراع وهو الذي اتخذ من العراق وسوريا ولبنان واليمن ساحة مواجهة له، يجد تعبيراته الضعيفة في الارهاب الدموي السائد. وقد طغى هذا الصراع بل طمس المطالب العادلة للشعوب العربية في التحرر والرقي والحرية وارساء أنظمة ديموقراطية. فالعنف كما قيل يستدعي العنف ويبرره. زد على ذلك ما تعانيه البلدان العربية في منطقتنا من ظواهر الفقر والامية والتخلف، وصعود التعصب الشوفيني الفئوي مذهبياً واثنياً وجهوياً.. فان ننتظر ريثما تستكمل روسيا أو التحالف الأممي مهمة القضاء على الارهاب فتلك مقولة مخادعة لن تستطيع ان تخفي النوايا الحقيقية لروسيا باستعادة نفوذها في المنطقة وفي آن معاً توفير الدعم للنظام الاسدي وقد شارف على الهلاك، وبالمقابل ايضا لم يعد من مجال لإخفاء التقاعس الاميركي بل التخاذل في ما يتعلق بالسياسة الاميركية بأكملها حيال النظام الاسدي، ولا بالضربات الجوية غير الفعالة لداعش التي تشنها اميركا وحلفاؤها.
أما ان يقرر الشعب السوري بنفسه مصير الاسد فان بوتين وطاقمه يقصدون في حقيقة الأمر ان انتخابات عام 2021 الرئاسية في سوريا هي التي ستقرر مصير بشار الأسد، فبوتين يعلم بحق نوعية وطبيعة الانتخابات الاسدية في سوريا، واي نتائج معروفة سلفاً تفرضها اجهزة للمخابرات الاسدية على الشعب السوري. معنى ذلك ان بوتين ومعه نظام طهران ما زالا مصرّين على بقاء الاسد.
لقد تمخض مؤتمر فينا بخصوص الأزمة السورية عن تصريحات متباينة. فالكرملين وان كان ظاهرياً يمالئ اميركا بضرورة المساعدة في ايجاد حل مقبول للأزمة السورية، فهو في آن معاً يمطر المعارضة السورية بوابل من قذائف طائراته الحربية في المناطق التي تسيطر عليها، لدرجة ان الاميركيين انفسهم يراوغون بشأن خطتهم في تدريب المعارضة المعتدلة. ذلك ان الاميركيين لا يرغبون في الصدام مع روسيا في سوريا الآن. والتنسيق بين الفريقين قائم لتفادي اي صدام جوي بين طائرات الطرفين المقاتلة هناك. تماماً كما ان التنسيق قائم ايضا بين موسكو واسرائيل للغاية نفسها. أما التصريحات الأميركية فكانت باهتة كالعادة. وحدها السعودية كانت حازمة بخصوص مصير الأسد، وهي ما زالت تعتد ببيان جنيف عام 2013، وترفض بوضوح اي دور للأسد في المرحلة الانتقالية المتوخاة.
لقد عمدت واشنطن الى تعمية مؤتمر فينا بدعوة العديد من بلدان المنطقة الى المؤتمر لمصر والاردن ولبنان وقطر. الا ان النقطة الملتهبة كانت تكمن في دعوة ايران، ايران هي نفسها التي شدد وزير خارجية السعودية على ضرورة استبعادها لأنها طرف متورط كلياً في الحرب السورية عبر حرسها الثوري وحلفائها. وكان واضحاً عشية المؤتمر ان دعوة تلك الدولة كان عملياً لتمرير دعوة طهران. والحق ان روسيا لم تكن بحاجة ماسة لحضور طهران المؤتمر، بقدر ما كانت طهران هي المستفيد الأول من حضورها، لأن ذلك الحضور يكرسها من الآن فصاعداً كقوة اقليمية منكبة على الشأن السوري. هذا ما أكدته المستشارة الالمانية «ميركل» في تصريح لافت أخير هو ان اي حل للأزمة السورية لن يكتب له النجاح الا من خلال أخذ الموقف الايراني في الاعتبار. وكأن ميركل بذلك كانت تتفهم مدى تشدد ايران في بقاء الاسد ونظامه كضامن للخط اللوجستي الايراني الممتد من طهران وصولاً الى جنوبي لبنان.
ان طهران ليست مستعدة قط للمساومة بخصوص استمرار اندفاعها نحو البحر المتوسط، فهي لم تنفق مليارات الدولارات على الحرب السورية، وعلى تدخلها في لبنان، وزعزعة الأمن في العديد من البلدان العربية لتجد نفسها خارج الاتفاقات الاميركية ـ الروسية المحتملة.
ان بوتين وهو رجل الاستخبارات السوفياتية ثم الروسية الضليع، يدير السياسة الروسية بعقل استخباراتي بتجنب الوقوع في الأخطاء. فقد أدرك منذ تقلده السلطة عام 1999، ثم بعد غزو العراق عام 2003، وغرق القوات الاميركية في وحول العراق، مدى الانهماك الكلي فيما بعد لباراك أوباما في حل المشكلات الاقتصادية لبلاده. فالانسحاب الاميركي من العراق واخلاؤه اياه لمصلحة النفوذ الايراني، والتأرجح الاميركي في دعم المعارضة السورية، والادعاء الاميركي بأن صعود «داعش» شكل مفاجئة جدية لهم بعد تقديم واشنطن تنازلات تاريخية امام التوثب الروسي في أوكرانيا وسوريا، كل ذلك شكل لفلاديمير بوتين ثغرات سانحة للنفوذ الروسي نحو المتوسط.
ليس من عادات الايرانيين وهم لاعبو الشطرنج الوقوع في الأخطاء ولم يكن قط قابلاً للتصديق ان التدخل الروسي في سوريا قد جرى من دون موافقة ايرانية. الا ان اصواتاً وازنة في ايران الآن قد بدأت تشكك في نوايا موسكو حيال الوضع السوري القائم. فهل ثمة صفقة ما يجري الاعداد لها في المنطقة، بين واشنطن وموسكو، من شأنها عدم الالتفات الى مصالح ايران في هذا المعمعان؟
فهل بدأنا حقاً نشهد تبايناً بين موسكو وطهران أم هو احدى الالعاب النارية التي يجيد بوتين تعميتنا بها على قاعدة التضليل والمباغتة، بالاشتراك مع طهران التي ما زالت تمثل سوقاً غنية للصناعات الحربية الروسية وحليفاً ضرورياً بخاصة في مجال الطاقة النووية وتقنياتها.