كانت حقاً مفاجأة مدوية ما لجأت إليه قيادة العمليات الروسية في سوريا يوم الثلاثاء في 16 الجاري من استخدام مباغت لقاعدة «همدان» في غرب ايران. فالرئيس الروسي بوتين وهو صاحب التاريخ العريق في عالم الاستخبارات يتقن ببراعة استخدام عنصر المباغتة. فعلى الاقل على صعيد المنطقة العربية وبالتحديد في سوريا المنكوبة بالحرب الداخلية فقد سجل الرئيس بوتين عدة مفاجآت، ابتداء بتدخله العسكري بطيرانه الحربي اول الامر وبتقديمه سلسلة مقترحات ملخصها انشاء غرفة عمليات عسكرية مشتركة تضم كلاً من موسكو وطهران وبغداد ودمشق لقتال «داعش» ومروراً بانسحابه الجوي الجزئي المفاجئ من سوريا وانتهاء بحصوله من القيادة الايرانية على ترخيص رسمي باستخدامه قاعدة في همدان. فالذي جرى منذ ايام لجهة استخدام موسكو لهذه القاعدة الايرانية مثير بمكان، لأننا كنا نعلم طوال الوقت ان روسيا كانت قد استبقت عدداً من قاذفاتها الحربية في قاعدة «حميميم» القريبة من اللاذقية وهي من طراز سوخوي 34 المتطورة، وان المسافة الفاصلة بين تلك القاعدة ومحور حلب ـ ادلب قصيرة نسبياً فلماذا استخدام قاعدة همدان الايرانية الآن؟
ثمة اسئلة تحتاج لأجوبة وتفسيرات حول هذا الاجراء. هل لأن قاعدة «حميميم» ليست مؤهلة ميدانيا بعد لاستقبال قاذفات توبوليف 22 إم 3 التي تفوق سرعتها سرعة الصوت مرتين وأكثر، وهل كان الروس في الفترة الأخيرة يؤهلون ميدانياً قاعدة حمدان بعيداً عن الأنظار والأقمار الاصطناعية، ليستعيضوا بها عن قواعدهم في القوقاز ام المسألة مسألة سياسية بالدرجة الأولى اكثر منها عسكرية بحتة؟ ذلك ان ايران ما بعد الانقلاب الخميني عام 1979، وبطروحاتها المتصلبة لم تستقبل على اراضيها قط اي قوات اجنبية فتجدها الآن تلجأ وللمرة الأولى الى اجراء من هذا القبيل.
بصرف النظر عن اهمية المباغتة «البوتينية» وتاريخ الرجل الحافل بالخداع والتضليل بل بصرف نظر عن اهمية استخدام هذه القاذفة العملاقة توبوليف 22 إم 3 والتي لم يطرحها لا الاتحاد السوفياتي ولا روسيا الجديدة في الاسواق الخارجية لبيع السلاح، فان الاعتقاد السائد الآن في اوساط المراقبين هو ان المسالة مسألة سياسية بامتياز. فكما هبت موسكو لانقاذ بشار الاسد غداة لجوئه لاستخدام السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية صيف 2013 فوجدت له مخرجاً ينقذه من ضربة عسكرية وشيكة كان العالم يراهن على الرئيس اوباما باللجوء اليها فجرى عقد اتفاق كيري ـ لافروف الشهير الناص على قبول تسليم الاسد مخزونه من السلاح الكيماوي وانضمامه الفوري للمعاهدة الدولية ذات الصلة، هكذا تهب موسكو وطهران لنجدة الاسد وانقاذه من ورطة حلب.
ان تمتين وترسيخ العلاقات بين روسيا وايران هو الأجدر بالاهتمام، وهي علاقات سياسية وجيو استراتيجية تتلخّص برؤيا مشتركة ومتطابقة لمستقبل المنطقة العربية. فحيال الاعتراضات الأميركية الخجولة بتذكير البيت الأبيض للروس بضرورة احترام قرار مجلس الأمن 2231 الناص على تحريم بيع السلاح للنظام الإيراني، وأن إدخال السلاح الروسي إلى قاعدة «همدان» هو خرق لهذا القرار فإن أجوبة لافروف جاءت سطحية ومن قبيل اللامبالاة مذكراً واشنطن بتزويدها بعض أطراف المعارضة السورية ببعض السلاح الأميركي المتطور الذي وصل إلى أيديها أخيراً. إلا أن لافروف يعلم أن سياسة أوباما المتخاذلة والسائرة في خط انحداري متهاوٍ، في حقيقتها ليست في صدد تسليح المعارضة السورية بأي سلاح نوعي فتاك، فهموم معركة الرئاسة الأميركية أهم بكثير مما يدور في حلب من مواجهات. جل ما باستطاعة واشنطن أن تفعله لتخفي عجزها هو عرض المشكلة على مجلس الأمن حيث عندما يتعذر التوافق على القرارات تصدر قرارات مبدئية فلا هم بعدها مدى احترام الأطراف المعنية بتنفيذها، وهذا بالضبط ما جرى وما زال يجري حتى الساعة بالنسبة للقرار 2216 حول اليمن.
إن المشهد المعروض للقراءة المباشرة الآن ليس بحاجة بتاتاً للغوص في تحليلات مضنية ولا لتركيب عناصر وعوامل ومؤشرات يتوجب جمعها لتحسن القراءة والرؤيا: إن التحالف الروسي – الإيراني العراقي مضافاً إليه الميليشيات المذهبية ابتداء من لبنان ومروراً بالمنطقة العربية وانتهاء بأواسط آسيا ماضٍ قدماً في معركة ضارية. وليست حلب والراموسة وإدلب وقرى شمال غربي سوريا هي ساحة القتال وحدها. فالنظام الملالي الإيراني يعتبر بقاء الأسد في السلطة مسألة لا تحتمل أي جدال أو مساومة أو تنازلات. وزيف التلاعب الروسي وتعمية أبصارنا تارة في فيينا وطوراً في جنيف وكذلك على طول امتداد الساحة السورية والعراقية واللبنانية واليمنية، ليس من شأنها أن تضللنا. فروسيا الآن تضغط بشتى الوسائل، معتبرة الخنوع الأميركي والسياسة «الناعمة» التي يقودها أوباما فرصة سانحة لتثبيت نفوذها في منطقتنا. فلا نقع ضحية الأوهام انه بالإمكان تحييدها أو الوصول مع بوتين إلى تسويات وأنصاف حلول، لأن روسيا ما زالت ثاني بلد بائع للسلاح في العالم وبلد مصدر للبترول والغاز والأخشاب وسائر المواد الأولية، والصناعة الروسية ما زالت جنينية في خطواتها الأولى وبنيتها التحتية والفوقية معاً ما زالتا تعانيان من التخلّف والرداءة والبدائية. وتشكل سوق السلاح العالمية مصدراً وفيراً للقطع النادر الذي هي بأمس الحاجة إليه هي تتصدر إيران والعراق وسوريا وليبيا والجزائر قائمة مشتري السلاح. وتملك روسيا تكنولوجيا نووية هامة هي موروث النظام السوفياتي السابق. فالملاكات Les Cadres الروسية ما زالت معروضة للتصدير تحت عناوين شتى (التعاون، تقديم الإرشادات وعرض الخبرات…). وتسعى روسيا لرفع حجم تصديرها للبترول شأنها في ذلك شأن إيران، بينما تلتزم السعودية بحزم بقرارات الأوبيك. لذا فمصلحة روسيا الاقتصادية في هذا المجال محكومة بهذا النمط من الإنتاج. كما أن مصلحتها الاستراتيجية كما رأينا أخيراً في قمة بيترسبورغ في تطبيع العلاقات مع سائر الدول الإقليمية الوازنة مثل تركيا.
تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية الأميركية قرابة 80 يوماً، وللمرشح الأرجحي هيلاري كلينتون حظوظ كبيرة جداً، وتشير المعلومات إلى أنها تملك اعتراضات وجيهة حيال سياسة أوباما التخاذلية، فإن استطاع الأخير إرضاء الطبقة الوسطى ومطالبها بعد الأزمة الاقتصادية الأخيرة، إلا أنه قدم تنازلات كبيرة إن في أوروبا وبالأخص في أوكرانيا والقرم، أو حيال قضايا الشرق الأوسط ابتداء بسياسة إسرائيل الاستيطانية وانتهاء بالعلاقات مع إيران ومع النظام الأسدي بالذات. فلم يعد مطلب رحيل الأسد يتصدر أولويات الخيارات الأميركية حيال الأزمة السورية. فعلى العرب أن يدركوا خطورة المرحلة الراهنة، حتى ينقشع هذا الظلام الحالك، لأن الأوضاع لا يمكن أن تستمر بهذا السوء.