ليس عبثاً مصادرة روسيا ورئيسها الطموح فلاديمير بوتين، المشهد السياسي -العسكري-الإعلامي، المتعلق بسوريا، في المرحلة الراهنة. كما أن ليس عبثاً الاندفاع الميداني الروسي في الايام الماضية، إن بوحدات برية أو جوية إلى مناطق عدة في سوريا.
فالاستراتيجية «البوتينية» الجديدة في سوريا، تلحظ انخراطاً مباشراً يتمحور في خطين متوازيين: توفير النجاح الكامل للانتشار العسكري الفاعل على الساحل. وملاقاة الدور الايراني العسكري في مستقبل سوريا.
الخط الاول، يكشف خلفياته تقرير نشرته صحيفة «جيروزاليم بوست»، بأن الانتشار العسكري الروسي في شمال غربي سوريا، هو لدعم القوة العسكرية للنظام، التي بدأت في الانحسار، وضمان الاحتفاظ بالأسد على رأس هذا النظام، وإن لمرحلة انتقالية.
لذا، قد تفهم خطوات التدخل بقوات روسية ميدانية، حول ميناء طرطوس، كدليل على التزام موسكو بمساندة الأسد. وما يتطلبه من توسيع مدرج قادر على استقبال طائرات انطونوف العملاقة للنقل، ليتكامل المشهد مع تحويل الحضور الروسي دائماً وراسخاً وفاعلاً، في ميناء طرطوس، على شاكلة القواعد الأميركية الثابتة حول العالم.
بحسب قراءة دبلوماسي غير عربي، بلادُه معنية بتطور الأزمة السورية، سارع بوتين الى اندفاعة ميدانية في سوريا، عندما تأكدت مخابراته، من انّ قوات الاسد على وشك الانهيار في دمشق، مما يعني ان ظروف الحل السياسي لن تبقى متوازنة لمصلحة موسكو، وقد تطيح بجنيف 3، وبالتالي تصبح «إنجازات» بوتين، واستثماراته الاستراتيجية في نظام الاسد، في مهب الريح.
وبحسب الدبلوماسي، يعكس التحرك العسكري الروسي، جدّية الكرملين في ضمان مستقبل الاسد، حتى في ظل الحديث الصريح لبوتين، عن استعداد النظام لتقاسم فعلي للسلطة في حكومة انتقالية، ضمن الصفقة الكبرى، تمهيداً لموعد رحيله… وللتأكد، على المتابعين ترقّب ما سيفيض به الرئيس الروسي، امام الجمعية العمومية للامم المتحدة في نيويورك، وما سيليه في اللقاء المرتقب مع الرئيس الاميركي باراك اوباما.
الدبلوماسي الذي كان كشف ما سمّاه الخطوط العريضة للحل المقبل في سوريا، يرى في الاندفاعة الروسية، تطوراً طبيعياً، ومتوقعاً، وغير متناقض مع المبادئ الاميركية للحل، لأن واشنطن تتفهّم التحرك العسكري الروسي، المحكوم بسقف النفوذ الساحلي السوري، من دون التوسع الى تورّط واسع على غرار مغامرة افغانستان، أواخر سبعينات القرن الماضي. ناهيك عن انّ الكلفة الاقتصادية لتدخّل واسع، تفوق قدرة تحمّل الاقتصاد الروسي بأشواط.
وما لم يجاهر به الدبلوماسي في شأن الاستراتيجية الروسية المستقبلية في سوريا، تكشفه التحركات العسكرية في جنوب اللاذقية، وصولا الى دمشق. إذ إنّ خسارة العاصمة لمصلحة المعارضة، تنهي ايّ شرعية للنظام الذي بات مربوطاً بأنابيب التنفس الاصطناعي على خطين روسي وإيراني. أمّا إبقاء رئة التنفس بخط ايراني واحد، فمعناه نجاح استثمارات طهران وحدها في مستقبل النظام، وبالتالي تراجع نفوذ موسكو الى مساحة القاعدة البحرية في طرطوس.
أمّا استيعاب الهجوم على دمشق، فيكفل لموسكو المستقبل، في وجه النفوذ الايراني المطلق، إذ إنّ صمود النظام ولو بلا الاسد، يبقي اوراق روسيا في صدارة اللعب على الطاولة الاقليمية.
وترسيخ قواتها ميدانياً على الساحل، يقطع خيوط الآمال الاقتصادية الايرانية في اتجاه اوروبا، وهنا لبّ التحرك، فمصلحة موسكو الاقتصادية مع اوروبا مرتبطة بتصدير الغاز الروسي، إن عبر أوكرانيا أو عبر بدائلها… فيما، أيّ منفذ لإيران بتصدير غازها مباشرة من الساحل السوري الى اوروبا، يصيب مقتلاً المصلحة الروسية الاقتصادية، بخاصة انّ طهران ذات الاحتياط الكبير جداً بالغاز، لن تؤثر في مصالح الخليج العربي.
وسط المعادلة الخفية، يبدو التحرك العسكري الروسي، موجهاً أيضاً الى طهران، ومضمونه انّ الاستثمار في نظام الاسد، يقبل شراكة روسية ايرانية، أمّا تقاسم الاسواق الاوروبية على مستوى الغاز، فمسألة غير واردة إطلاقاً في حسابات الكرملين، والدليل:
رسم موسكو، الأطر المسموح فيها، من حدود اسكندرون الى حدود العريضة اللبنانية، ومسح أيّ حضور خارج النفوذ الروسي هناك، أي قطع الطريق على أي منفذ لتصدير الغاز الايراني، بعد إجهاضه من دمشق، فيما يتكفل النفوذ الاميركي في قطع الطريق على أي أنبوب ايراني من العراق عبر شمال لبنان، بخاصة انّ البحر المتوسط يختزن كميات وافرة من الغاز، لمصلحة دول حوضه، ولا حاجة لأنابيب ايرانية. وعليه تتقاطع مصالح الجميع، باستثناء طهران، في رسم أفق الحضور الروسي المباشر في سوريا، مع الاسد مرحلياً، وبدونه بعد المرحلة الانتقالية.