إسقاط طائرة «إيليوشن 20» الروسية في أجواء اللاذقية قد يكون أكثر خطورة مما يبدو، أقلّه في ضوء التعثّر الذي يمرّ به الدور الروسي في سورية. فهو حدث مختلف عن إسقاط تركيا «السوخوي 24» أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 وأدّى لاحقاً إلى نشوء «علاقة استراتيجية» آخذة بالنمو والتطوّر بين موسكو وأنقرة. وهو مختلف أيضاً عن إسقاط «السوخوي 25» فوق إدلب أوائل شباط (فبراير) هذه السنة، وهذه عملية نُسبت إلى «فصيل معارض» يُعتقد أنه «هيئة تحرير الشام» ولم تتكرّر، لكن تلتها هجمات كثيفة بالطائرات المسيّرة على قاعدة حميميم وقد ردّ الروس عليها بعشرات الغارات الجويّة لكنهم اعتبروها أحد أهمّ الدوافع لاجتياح إدلب، وتشكّل الآن أبرز أهداف الاتفاق الأخير بين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان. ولا شك في أن مقتل خمسة عشر عسكرياً روسياً في «إيليوشن 20»، بعد ساعات قليلة على إعلان هذا الاتفاق في سوتشي، أطلق موجة تخمينات تراوحت بين غضب النظامَين السوري والإيراني على إلغاء/ تأجيل معركة إدلب وبين استياء إسرائيلي من «الترقية» الإقليمية التي تمنحها روسيا للنفوذ التركي.
عندما لخّص بوتين الحادث الأخير بـ «سلسلة ظروف مأسوية عَرَضية» كان على الأرجح حريصاً أولاً على إبلاغ الداخل الروسي بأن العسكريين القتلى لم يسقطوا في مواجهة حربية ولا في اعتداء مدبّر. وبما أن وزارة الدفاع الروسية سارعت إلى إلقاء المسؤولية على إسرائيل وردّت الأخيرة باتهام دفاعات النظام السوري، فقد اختلط الأمر وبدا كأن ثمة رأيَين في الكرملين، واحدٌ أقرب إلى إسرائيل والآخر إلى دمشق. غير أن التحقيق الذي بدأ مع مسؤولي الدفاع الجوي في منطقة الساحل السوري واستُكمل مع وفد سلاح الجو الإسرائيلي، بعد انتشال الطائرة من مياه المتوسط، لم يكتفِ بفرضية المصادفة المؤسفة بل ركّز على معلومات مضلّلة وسوء تصرّف من الجانب الإسرائيلي أدّيا إلى وقوع الطائرة في مرمى «النيران الصديقة».
بعد مرور أكثر من أسبوع وإعلان نتائج التحقيق، تبدو موسكو أكثر ميلاً إلى التعامل مع الحادث بإدخال تعديلات على استراتيجيتها في سورية لتعويض الإخفاقات في رهاناتها على الولايات المتحدة. يُشار هنا إلى أن التوافق الأكثر صلابة بين الرئيسين الأميركي والروسي في هلسنكي كان يتعلّق بأمرَين: «أمن إسرائيل» وهو ما التزمته موسكو على الدوام، و «إخراج إيران من سورية» لكن من دون التزام روسي واضح، لأن الجانب الأميركي لم يقدّم عرضاً متكاملاً، أي أن بوتين لم يتعرّف إلى «ثمن إخراج إيران». لذلك، قد تعتبر موسكو أن إسرائيل حققت أهدافها الأمنية في سورية، وأن إسقاط الطائرة ولو بصواريخ الدفاعات السورية فرصة لضبطها وفرملة العمل بـ «تفاهمات» بوتين – نتانياهو التي مكّنت الإسرائيليين من شنّ مئات الغارات على مواقع إيرانية. وإذ بدا أن هناك تجميداً للنشاطات الإسرائيلية أكّده الروس بإغلاق المجالَين البحري والجوي بحجة إجراء مناورات بالصواريخ كانوا أجروها فعلاً قبل أسبوع، فإن بنيامين نتانياهو وأفيغدور ليبرمان دأبا على تأكيد أن إسرائيل لن تتوقّف عن استهداف الوجود الإيراني في سورية.
في سياق الكشف عن خلاصة التحقيق، يوم الأحد 23/09، قالت موسكو أن كل القوات الإيرانية وتلك التي تدعمها «انسحبت إلى مسافة 140 كيلومتراً بعيداً من الجولان»، ما يعطي أماناً كافياً لإسرائيل. كان التطرق إلى تموقع الإيرانيين غاب عن الإعلام منذ قيل أن إسرائيل رفضت عرضاً بانسحابهم إلى مئة كيلومتر، لذلك انطوى الإعلان الأخير على دلالات عدة، منها: 1) أن موسكو ضغطت على إيران وانتزعت منها اتفاقاً لإرضاء إسرائيل، لكن أيّاً من الدول الثلاث لم يعلن عن ذلك سابقاً. 2) أن التزام روسيا «أمن إسرائيل» كان مبرّراً مبدئياً للسماح لها بضرب الإيرانيين لكن إبعاد هؤلاء من الجولان وتمركز فرق من الشرطة الروسية مع قوات النظام السوري فيه أزالا احتمالات أي احتكاك إسرائيلي – إيراني. 3) إن الخطأ الذي ارتكبه الإسرائيليون لن يكون ثمنه أقلّ من مراجعة العلاقة العسكرية بين الجانبين ووضع قواعد جديدة صارمة للتنسيق بينهما، أي أن «حرية التحرك» التي تمتّع بها الإسرائيليون لن تعود كما كانت. 4) إن موسكو عبّرت عملياً، بتأكيدها انسحاب الإيرانيين وأتباعهم من الجولان، عن كونها غير معنيّة بسعي إسرائيل (أو أميركا) إلى منع «التموضع» الإيراني في سورية ولا باستخدام الإيرانيين الأراضي السورية لتمرير أسلحة إلى «حزب الله» في لبنان إذ قال الناطق باسم وزارة الدفاع الروسية أن إيران أكدت خلال المشاورات معها أن «لا نيات عدوانية لديها تجاه إسرائيل».
تُظهر مصطلحات، مثل «الرد الجاحد» على كل ما فعلته روسيا لإسرائيل، و «الاستهتار الإجرامي» و «المعلومات المضلّلة» و «نزعة المغامرة»، إلى أن العلاقة بين القيادتين العسكريتين تأثرت في العمق. يُستدلّ على ذلك أيضاً من ردود الفعل الإسرائيلية التي انتقد بعضٌ منها بشدّة محاولات إلقاء اللوم على النظام السوري أو إيران، واستنتج بعضٌ آخر أن إيران خرجت مستفيدة من الخلاف غير المتوقّع مع موسكو لأن تقنين الهجمات سيعفي نشاطات نقل الأسلحة والبرامج الإيرانية من أي مباغتات قاتلة أحياناً. هكذا، فجأة، تبدّلت التقديرات السابقة بأن العلاقة الروسية – الإسرائيلية «استراتيجية»، وأن بوتين قد يكون أراد هذه العلاقة لإقامة «توازن» مع الوجود الإيراني وتحسّباً لأخطار انهيار التعايش غير المريح بين الجانبين الروسي والإيراني، خصوصاً أن الأخير ما كان ليرضخ لمشروعات إخراجه من سورية حتى لو دعمها الروس. فمع اعتراف النظامين السوري والإيراني بالمكاسب التي مكّنتهما روسيا منها إلا أنهما متشبثان بتحالفهما، سواء لارتباط مصيرهما أو لشعورهما بأن روسيا قد تغدر بهما إذا عرضت عليها صفقة مجدية، ويتردّد في الحلقات الضيّقة أن لديهما خططاً لـ «مقاومة» حالٍ كهذه.
ساد الاعتقاد لفترة أن ما تنجزه إسرائيل في سورية يشكّل «مصلحة مشتركة» لها ولروسيا – كذلك للولايات المتحدة – فكلّما أضعفت الإيرانيين وتجنّبت تهديد نظام بشار الأسد أشعرت روسيا بأنها تخفّف عنها أعباء ستفرض ذاتها لاحقاً حين تشارف على إنهاء الأزمة السورية. وبمعزل عن الحاجة إلى الإيرانيين وأتباعهم في القتال البرّي، لمس الروس سلبيات دور إيران وتحالفها مع الأسد في الحدّ من نجاحهم في توجهاتهم الثلاثة: إنهاء الحرب في جانبها العسكري، وصوغ أي حل يتضمّن شيئاً من الانتقال السياسي، واجتذاب الحكومات الغربية للمساهمة في تمويل إعادة الإعمار، إذ تربط إيران أي تسهيلات في سورية (واستطراداً في العراق ولبنان واليمن…) بضمان مسبق لنفوذها ومصالحها الإقليمية، وإذا لم يتحقّق ذلك فإنها ستواصل استراتيجية الحروب الدائمة. ولا تستطيع روسيا وحدها، والأرجح أنها لا تريد، توفير هذا الضمان على المدى الطويل.
كان واضحاً في الإجراءات «الانتقامية» كما وصفها وزير الدفاع الروسي أنها اهتمّت أولاً وأخيراً بسلامة العسكريين الروس، ولذا رمت جانباً مطالبات إسرائيلية دائمة وملحّة بعدم تزويد قوات النظام السوري صواريخ «إس 300»، لكن الأهم أنها قرّرت استخدام التشويش لمنع أي هجمات إسرائيلية على مواقع إيرانية طالما أنها أصبحت بعيدة ولم يعد هناك مبرّر أمني لضربها. تلك خسارة فادحة لإسرائيل، لا تحدّ من طموحاتها وتدخلاتها فحسب بل تعطّل صراعها المفتوح مع إيران، وأي صيغة جديدة لمعاودة التعاون مع روسيا لن تعيد «شهر العسل» مع موسكو إلى ما كان عليه. وتشكل الإجراءات الروسية أيضاً رسالة موجهة إلى الولايات المتحدة، فهذه كانت تدعم الضربات الإسرائيلية المنسّقة مع روسيا باستراتيجية «إخراج إيران من سورية» لكن ها هو بوتين يبلغها الآن أولاً أنه لا يأخذ بهذه الاستراتيجية ما لم تكن جزءاً من صفقة متكاملة، وثانياً أنه لا يستطيع تمرير الخطأ الإسرائيلي من دون عقاب، وثالثاً أن نهج العقوبات المعمّمة كما تنتهجه إدارة دونالد ترامب يدفعه إلى العمل مع القوى الإقليمية المستعدّة للتعاون معه.