Site icon IMLebanon

«سكرة» الفورة الروسية والاستراتيجية السعودية

الاستعجال في التعامل مع التدخل الروسي في سوريا، يقابله قلق داخلي من عدم وجود استراتيجيات مقابلة واضحة في التعامل مع الوضع بما هو أبعد من سياسة الممانعة

شهدت الساحة اللبنانية، منذ 2005 حتى اليوم، موجات من «السكرة» اللبنانية بتطورات المنطقة وارتداد أحداثها على لبنان. ومع كل حدث إقليمي، كان استعجال قطف ثماره و»تقريشه» لبنانياً، يقود الأطراف اللبنانيين الى مزيد من الأزمات الداخلية التي أدت الى الوضع المهترئ الذي يعيشه لبنان داخلياً.

لا يشذ تعاطي القوى السياسية اليوم مع التدخل الروسي عن هذه القاعدة. فمنذ بداية الحرب السورية، يأخذ تفاعلها في لبنان اتجاهات مختلفة، بحسب الانقسام بين قوى 8 و14 آذار وتعاطيهما، كل من زاويته، مع النظام السوري أو معارضيه في بداية الحرب، قبل أن تنجلي غبار المعارك عن صعود نجم تنظيم «داعش» و»جبهة النصرة»، الأمر الذي فرمل اندفاعة بعض الأطراف اللبنانيين، من دون أن يتخلوا عن اقتناع راسخ بضرورة إسقاط هذا النظام.

جاء التدخل الروسي في سوريا ليفرض بدوره خلط أوراق لبنانية، كما الإقليمية، بعدما بدأ التجاذب الداخلي يأخذ مداه مجدداً على هدير الطائرات الروسية، ولا سيما أن هذا التدخل لم يأت منعزلاً عن سياق أحداث دولية وإقليمية، ساهمت في تعزيز رؤيتين مختلفتين لمستقبل لبنان ربطاً بالتطورات السورية. فدور روسيا الجديد على البحر المتوسط، تزامن مع مصادقة المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني على الاتفاق النووي، الذي يتوج الاتفاق التاريخي بين إيران والولايات المتحدة تحديداً، ما يشير إلى صعود نجم إيران في الشرق الأوسط، وتخلي واشنطن عن التدخل مباشرة فيه، كما بدا واضحاً في أكثر من محطة أميركية؛ وآخرها كلام الرئيس الأميركي باراك أوباما.

الدول العربية تسمع

كل يوم تشديداً غربياً على ضرورة تحييد لبنان

مع تصاعد الدور الإيراني وتدخل روسيا في سوريا، بدا لمعارضي النظام السوري في لبنان أن منحى جديداً يفرض نفسه، حتى قبل أن تنجلي حقيقة ما تقوم به روسيا، فهل هو تدخل يهدف الى منع انهيار النظام السوري وحماية مناطق ذات أكثرية طائفية معينة فحسب، وتحضير المرحلة الانتقالية في الحل السلمي المرسوم لسوريا دولياً؟ أم أنه دور أكبر يهدف مع تدخل إيران المباشر، بقواتها على الأرض، الى تغيير المعادلة الجغرافية والعسكرية التي ارتسمت في الأشهر الأخيرة مع سقوط مناطق شاسعة في أيدي «داعش» و»النصرة»، ما يعني إعادة تعويم النظام وليس فقط منع انهياره سريعاً؟ ثمة فرق كبير بين المعادلتين، لأن الثانية تعني أن روسيا تريد تأكيد نفوذها في المنطقة من خلال بوابة دمشق، وليس حجز مكان لها فحسب على طاولة الحوار الدولية متى حان وقت إيجاد تسوية سورية.

هذا التباين يقلق الى حد كبير معارضي الأسد في لبنان، ولا سيما أن المؤشرات الداخلية بدأت تنبئ بأن «سكرة» فريق 8 آذار بـ»الانتصار» الروسي وليس بالتدخل فحسب، باتت تخيم على المشهد السياسي العام وتترجم أول ما تترجم بتعطيل الحكومة على مدى أسابيع من دون أي احتمال بالإفراج عنها قريباً. لكن القلق الداخلي لا يلغي في المقابل أن ثمة تساؤلات «منطقية» عن شكل ردة الفعل العربية والخليجية في التعاطي مع الدور الروسي (وارتداده في لبنان ضمناً) ولا سيما في ضوء زيارة ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لموسكو، وانتظار ما إذا كانت زيارة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز لها ستتم في الخريف أو لا. فالدول العربية كانت واضحة تماماً في موقفها من الدور الروسي ورفض بقاء الرئيس بشار الأسد، لكن ترجمة هذا الرفض لا تزال في حاجة الى مزيد من الوقت لبلورته، وخصوصاً في ظل انشغال السعودية تحديداً بوضع اليمن. أما لجهة سوريا، فإن التحالف العربي ــــ الغربي لضرب «داعش» لم يثبت خلال الأشهر الماضية أنه تمكن من تحقيق تقدم فاعل في وقف تمدد هذا التنظيم وممارساته، إضافة الى أن التطورات العسكرية ساهمت في انفجار أكثر حدّة لقضية النازحين السوريين، ما أضاف مشاكل حيوية إلى تلك الموجودة أصلاً، وباتت تتصدر قائمة الأولويات الدولية. في حين أن الأمنيين الذين تواصلوا مع الروس يتحدثون عن ضربات روسية تستهدف كل أنواع التنظيمات المتشددة والمجموعات الإرهابية الموجودة على الحدود السورية، وهو أمر يصب في خدمة وقف المد الإرهابي الذي يشكل عنواناً جذاباً للدول الخائفة منه، علماً بأنه يخدم روسيا التي تسعى الى الحد من تمدد هؤلاء في اتجاهها.

أما النقطة الثانية التي تدعو الى التساؤل، فتكمن في لعبة أسعار النفط وخفضه والرد السعودي على موسكو في المكان الذي يوجعها اقتصادياً، علماً بأن أول مؤشرات ذلك بدأ يظهر ويتردد في المحافل النفطية والاقتصادية.

لبنانياً، القلق من احتمال ردات فعل على التدخل الروسي يندرج على مستويين أمني وسياسي. لكن رغم تهديدات مبطنة وأخرى مباشرة من جانب معارضي موسكو، ولا سيما الجبهات الإسلامية، فإن ثمة اطمئناناً داخلياً تعبر عنه قيادات أمنية بعدم تحول لبنان مجدداً إلى ساحة للتفجيرات، وإن استئصال بؤر محددة وتقطيع أوصال بؤر أخرى ساهما كثيراً في منع استخدام هذه البؤر من أي جهة تريد الرد عبر لبنان على روسيا أو على تغير المعادلات السورية. إضافة الى أن الدول العربية تسمع كل يوم تشديداً أميركياً وغربياً على ضرورة تحييد لبنان عن أي صراع نفوذ في المنطقة، وهو أمر يتكرر في لقاءات أمنية على مستوى دولي وإقليمي.

سياسياً، مشكلة الرد على الرهان المتجدد على انتصار سوري، تكمن في غياب استراتيجية سعودية تحديداً تجاه لبنان. فأبعد من رعاية حوار تيار المستقبل وحزب الله، والممانعة القصوى في وصول العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية، ليس هناك أي مؤشرات فاعلة على تمتين وضع حلفائها. حتى الأزمة المالية للرئيس سعد الحريري، لا تزال تشكل عقبة في إعادة شد العصب الداخلي، وهو أمر لا يجب تقليل أهميته في رسم الاستراتيجيات السياسية.

معيار السياسة السعودية المبهمة يكمن في انتظار معرفة موقفها من الحكومة، فأي تطور في علاقة الرياض وطهران، وأي تعامل جدي مع وضع سوريا المستجد، سيترجم عبر الحكومة، تفعيلاً أو تجاوباً مع تجميد طويل الأمد لعملها، علماً بأن تصعيد عون في الخطاب وفي الشارع، بعدما حرره تقاعد العميد شامل روكز، يصب في اتجاه خيارات جديدة، بعدما رسم سقفاً جديداً لأي حوار إقليمي تترجم نتائجه في لبنان.