لا خسارة في حسابات «القيصر الروسي الجديد»، فلاديمير بوتين، على طاولة الشطرنج السورية، وعبر نقلاته الموزونة مع الغرب، ما دامت، متاحة له، نقلة اجتياح «الوزير»، من دون عبارة: «كش ملك».
الادارة الاميركية، كما حسابات حلف الناتو، على يقين انّ بوتين يصوّب كامل ذخيرته في سوريا، من قواعد اللاذقية الجوية، الى قواعد قزوين البحرية، ليس لمجرد استهداف أفراد المعارضة المعتدلة ضمناً، بل هو فعلاً يصوّب سياسياً على أوكرانيا.
لم يحتج «القيصر» كبير عناء للتأكد من انّ خصومه لن يهرعوا الى الميدان السوري، إن هو اقتحمه… فانتهز اكثر من فرصة ليصوّب على بضعة اهداف دفعة واحدة، على طريقة العقل السوفياتي، او المكوّن الاستخباري الذي يختزنه بوتين، من ايام قيادته الجهاز، وقد يصلح عنوانه: الدب الروسي.
ادارة الرئيس الاميركي باراك اوباما، لن تناقض شعاراتها بالانسحاب من الأوسط الملتهب، في اواخر عهدها، فيما سوريا من زمان ساقطة من حساباتها، سوى بما يتعلق بالامن الاسرائيلي… وموسكو في عهد بوتين، قدمت لرئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو، اكثر ممّا يحلم، من تنسيق بالطلعات الجوية، ولجم أي انفلات في الجولان، وتقليص خطر أي نزاع محتمل عبر لبنان، مع «حزب الله».
اذاً، لم يسلب بوتين ملفاً اميركياً، في ظل انسحاب اوباما الكامل من المنطقة، والذي يرمي للتفرّغ الى مواجهات المستقبل، اقتصادياً وسياسياً، مع الصين… او العملاق ذو الأرجل التي يقوّيها النظام الشيوعي- الرأسمالي «بالتمارين» العسكرية عبر رجله الوفي في بيونغ يانغ.
صبيحة الحرب الواسعة التي اعلنها النظام السوري بغطاء روسي، تتظهّر النية في رأب سلطة الاسد، وتحصين الخطة باء، بالحفاظ على المدى السوري الحيوي، من الساحل الى خط دمشق فالجولان، وملامسة حدود الاردن.
وهذه الخطة قد تستدعي الكثير من «الرفيق» ابو علي بوتين، بحسب اللقب الشعبي الجديد في مناطق النظام، ومنه اعتماد الميليشيات المذهبية المستوردة، ضد «الاعداء»، خصوصاً المعارضة السنية المعتدلة، المفترض انها باتت بلا جناح حام، او ملاك غربي حارس.
من اهداف بوتين الكثيرة، بعض العناوين في سوريا، حيث النظام راهناً مع الاسد، ومستقبلاً بدونه، يحفظ حصة موسكو الوازنة في المياه المتوسطية، ويقصم ظهور الدواعش الشيشان، وجيرانهم من الجمهوريات الاسلامية السوفياتية السابقة، ويقطع فعلاً أيّ طريق لمجرد التفكير في تصدير الغاز الى القارة العجوز، بديلاً من غاز روسيا عبر اوكرانيا، والمسألة الاخيرة غير قابلة للحد الأدنى من المساومة، إن بخط الغاز المفترض من ايران، او من قطر.
ومن اهداف «القيصر» الجديد، ايضاً، استعادة ما يفترضه حصصاً من تركة الاتحاد السوفياتي، إن في سوريا او العراق، واذا كانت المسألة الاخيرة، شبه مفروغ من تداعياتها، عبر النفوذ الايراني المباشر او المستتر، فإنّ المسألة السورية تمثّل رأس حربة المواجهة.
وبالتالي، وإن لن تظهر ابعادها من الآن، فوقائعها الميدانية ترسم علامات المرحلة، بدءاً من معركة سهل الغاب بريف حماه، لتأمين المدى الاستراتيجي لمنطقة اللاذقية، وصولاً الى دمشق نفسها، حيث تتداخل العوامل المؤثرة مع الدور الايراني.
والمحصلة القريبة، ترسيخ النفوذ الروسي المباشر وغير القابل للمشاركة، في محافظات اللاذقية وحماة وحمص، حيث المكوّنات الاقلوية السورية، وحيث النفوذ التقليدي الروسي، من زمان، في طرطوس. وهنا يمكن رصد خطوط مصلحية تتعلق بالمشروع الإستراتيجي الروسي لضبط ايقاع انتاج النفط والغاز، على الشواطئ السوريّة، حيث حضور الشركات الروسية في المتوسط.
في المقابل، يتخلى بوتين عن منطقة نفوذ في دمشق وريفها، تحت ادارة إيرانية، مباشرة او عبر «حزب الله»، مع ضمان خطوط خلفية في لبنان.
قد يكون مبكراً الحسم بنجاح استراتيجية بوتين في المتوسط، لكنّ الامر المفروغ منه انّ ادارة اوباما وحلف الناتو، لن يزاحموه في سوريا، وتنحصر نيّاتهم، في تركه يغرق كما غرق أسلافه في افغانستان، والاكتفاء بالمتابعة، مع ضمان الحليف التركي، في مواجهة مؤجلة من ايام خروتشيف، مع تركة «الرجل المريض» على البوسفور، أيام الحرب الباردة.