بحلول الذكرى السنوية الأولى للاجتياح الروسي للأراضي الأوكرانية تعددت السيناريوهات التي تُحاكي نتائجها طالما انها لم تنته بعد. ووسط المخاوف من ان تقود الى حرب عالمية ثالثة – ما لم تكن قد اكتسبت وجهاً من وجوهها عند احصاء الدول التي تشارك فيها – وجد مَن نزع عنها صفة «العملية الخاصة» التي قصدتها موسكو، خصوصا إن تمّت المقارنة مع عملية روسية سابقة انتهت قبل 9 سنوات بضَم شبه جزيرة القرم الى أراضيها في ايام قليلة. وعليه، كيف يمكن تفسير هذه المعادلة؟
قبل الإشارة الى ما تضمنته سلسلة من التقارير الديبلوماسية والاستخبارية التي تناولت تطورات العملية الروسية الجارية في أوكرانيا منذ 23 شباط العام الماضي، من الواجب عدم إجراء اي مقارنة بين هذه «العملية الخاصة» وما تحتاجه من جهد لإتمامها بالسيطرة الكاملة على عدد من المحافظات الاوكرانية وضمّها الى روسيا الإتحادية، وتلك العملية الخاطفة التي نفّذتها موسكو ما بين 23 و27 شباط من العام 2014 وانتهت بإعلان عودة «شبه جزيرة القرم» الى الأراضي الروسية بعد انتهاء مفاعيل ما سمّته موسكو «الهدية الروسية» التي قدمها الرئيس الروسي السابق جوزف ستالين لأوكرانيا عام 1954 تقديراً منه للقيادة الاوكرانية كواحدة من دول الإتحاد السوفياتي، وتعبيراً عن حجم التعاون الذي كان قائما بين البلدين بعد سنوات قليلة على انتهاء الحرب العالمية الثانية. وكان ذلك قبل ان تطيح عملية «البيريسترويكا» على يد الرئيس الراحل ميخائيل غورباتشوف بالإتحاد كاملا بعد العام 1990.
وعلى خلفية التذكير بتلك المرحلة لا بد من الاشارة الى ان عملية ضم شبه الجزيرة لم تستغرق أكثر من ثلاثة ايام امتدت بين 23 شباط 2014 و27 منه في خطوة وصفت بأنها عقاباً غير مسبوق للرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش كما اعلن الرئيس فلاديمير بوتين يومها، داعياً من سمّاهم «مواطنيها الروس» القاطنين في المنطقة الى التظاهر في عاصمتها سيفاستوبول مطالبين بالعودة الى «الدولة الأم». ولما تجاوب أبناؤها بتظاهرات ضخمة متواصلة لثلاثة أيام وانتهت باستيلاء القوات الروسية المتخفية – والتي لم تكن ترتدي أي إشارة عسكرية – على «المجلس الأعلى» أو ما يُعرف بـ»برلمان القرم». واتبعتها بوضع اليد على مواقع استراتيجية في جميع أرجاء شبه الجزيرة في 27 من الشهرعينه وهو ما أدى إلى تنصيب حكومة سيرغي أكسيونوف الموالية لروسيا، والذي نظّم مع إدارته الجديدة استفتاء قاد الى إعلان استقلالها في 16 آذار من العام نفسه وترجمته القيادة الروسية بضمّها لشبه الجزيرة في 18 آذار.
وعلى وقع المتغيّرات التي شهدتها المنطقة حتى الاعلان عما سُمّي «منطقة القرم الاتحادية». لم تتجاوب موسكو يوماً مع الإحتجاجات الاوروبية والدولية والاممية التي رفضت الاعتراف بما حصل في شبه الجزيرة بعدما اعتبرته انتهاكاً للقانون الدولي والاتفاقات الموقعة بين روسيا والمحافظة على «الوحدة الإقليمية لأوكرانيا». ولم يتغير شيء على رغم من إقرار الاتحاد الأوروبي والعالم أجمع بأنّ موسكو انتهكت بصراحة الإتفاق المتعلق بإقامة «رابطة الدول المستقلة» عام 1991، و»اتفاقيات هلسنكي»، و»مذكرة بودابست» في شأن الضمانات الأمنية المُبرمة عام 1994، و»معاهدة الصداقة والتعاون والشراكة بين الاتحاد الروسي وأوكرانيا» التي أرسَت جميعها الهدوء والاستقرار في الشرق الأوروبي ودول الجوار الروسي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.
وفي ضوء هذه الخلفية التاريخية التي يمكن ان تسهل فهم ما يحصل اليوم في أوكرانيا اليوم وحجم الأهداف الروسية من السيطرة على مناطق تعتبرها جزءا من اراضيها، مستندة الى أصول سكانها الذين يُتقنون اللغة الروسية بغية ضمّها عقب وصول الممثل الكوميدي عدو موسكو الاول فولوديمير زيلينسكي الى السلطة بعدما انتخب رئيساً بغالبية كبيرة بلغت 73,2 في المئة، وأدى اليمين الدستورية في 20 أيار 2019 فتوالت التطورات السلبية الى درجة اعتبرت فيها موسكو انّ أمنها القومي بات في خطر جدي. خصوصاً إن تجاوَب الغرب مع طلب زيلينسكي بالإنضمام الى الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي بعدما بنى طلباته هذه على التهديدات الروسية المتلاحقة التي ترجمتها موسكو في حالات الذروة بالمناورات العسكرية على حدودها نهاية العام 2012 ومطلع العام 2022، قبل أقل من ستة أسابيع على بدء العملية العسكرية داخل الأراضي الاوكرانية فجر الثالث والعشرين من شباط الماضي.
وبعد هذا العرض الموثّق لِما سبق الحرب الروسية على أوكرانيا التي دخلت اليوم عامها الثاني، تحدثت التقارير الديبلوماسية عن مقاييس جديدة للربح والخسارة في الحرب التي لم تنته بعد. وقال تقرير تسرّب على هامش مؤتمر «ميونيخ للامن» المُنعقد منذ ايام في المانيا انّ موسكو وقعت في أتون مصيدة نصبت لها في اوكرانيا بالتكافل والتضامن بين واشنطن ومجموعة الدول الاوروبية المنضوية تحت لواء «الحلف الاطلسي» التي رفعت منذ اللحظة الاولى لواء المساعدة لدولة الـ 44 مليوناً بُغية إسقاط المشروع الروسي ووضع حدّ له بعدما تبيّن انه لن يقف عند حدود الدولة المستهدفة منذ عام. ذلك انّ دولاً اخرى من جارات روسيا هي على اللائحة عينها وسيُصار الى استهدافها بعد اوكرانيا ان نجحت عمليتها العسكرية على قاعدة «أُكِلتُ يوم أُكِلَ الثور الابيض». فأوكرانيا دولة قوية ومتقدمة تجمع على أراضيها كبريات القواعد النووية التي بنيت في عهد الإتحاد السوفياتي وليس أكبرها محطتي «تشيرنوبيل» و»زابوروجيا» التي تعتبر أكبر محطة نووية في أوروبا. تنتج ما يقرب من نصف كهرباء أوكرانيا.
ولفتت التقارير الى انّ المواجهة اليوم اتخذت أبعاداً أخرى غير تلك التي رافقت أول مراحل العملية العسكرية بعدما بات الدعم الدولي لأوكرانيا عملاً يومياً مُستداماً كمّاً ونوعاً. وقد ترجمته الزيارة الاخيرة للرئيس الاميركي جو بايدن الى كييف وجارتها بولندا أولى المتخوّفين من العملية الروسية على وَقع مجموعة البرامج العسكرية التي أيقظَت المخاوف الروسية من امتلاك الجيش الاوكراني مزيداً من الاسلحة المتطورة والتحضيرات المُعلن عنها عبر زيادة الموازنات العسكرية للدول الاوروبية الداعمة لها، والتي بدأت التحضيرات للقيام بعمليات عسكرية مرتدّة قد تقوم بها كييف في عدد من المناطق الحساسة التي دفع فيها الجيش الروسي آلاف المقاتلين من الجيش والمنظمات المساندة له من روسيا وعدد من دول العالم بعدما كشف النقاب عن وحدات من المرتزقة التي انتقلت من سوريا وليبيا إليها على رغم من التشكيك الروسي بهذه السيناريوهات التي يسوّق لها الغرب بهدف تهميش صورة الجيش الروسي والمَس بمعنوياته في ظل ما يمتلكه من أسلحة فائقة القوة، والتي لم تستخدم بعد.
ومن دون التوسّع في كثير من التفاصيل، فإنّ بعضاً من النظريات الأوروبية والاميركية التي راجت في مؤتمر «ميونيخ للأمن» وعززت التهديدات ضد موسكو وتلك التي كشف عنها بايدن خلال زيارته الاخيرة لأوكرانيا وبولندا تحدثت عن مستنقع استدرج اليه الرئيس الروسي، وقالت انه من الصعب ان يخرج منه مُنتصراً طالما انه لم يحسم الحرب بعد عام على بدئها وسط الحديث عن حرب عالمية ثالثة على الابواب، في انتظار ان تثبت مجريات العمليات العسكرية المقبلة صحة هذه النظرية من عدمها.