هل جاءكم ذلك النبأ من موسكو؟
هو خبر نشرته جميع وسائل الإعلام في مواقع بارزة تتناسب مع كونه بالغ التعبير والتفسير. لقد صرّحت مصادر روسية مسؤولة قبل أيام بأن تجارب السلاح الروسي في سوريا، قد وجّهتْ إليه الأنظار وازدادت طلبات شرائه من أكثر من دولة كانت تشتري سلاحها من مصادر أخرى!
التجارب العسكرية المتمثلة بالطيران الروسي وصواريخه والمدافع المتنوعة بطلقاتها قريبة وبعيدة المدى، والدبابات وصواريخ البوارج البحرية الموجهة عن بعد إلى الأرض السورية، وشتى أنواع التدمير التي جرت تجربتها للمرة الأولى هناك، فكانت فعّالة الأثر في الأرض والبناء والبشر إلى درجة محت من الوجود مدناً وأحياء ومنازل ومستشفيات ومدارس وجامعات، فعاد جزء منها ومن صيتها التدميري إلى النظام السوري وتوابعه الإقليميين، بينما الصيت التجاري والإعلامي كلّه قد عاد إلى روسيا وأسلحتها الحديثة، ويا لفخر موسكو بصناعاتها العسكرية المتجدّدة والمستحدثة والتي تمّت تجاربها حتى الآن في كل المدن والقرى السورية بصورة حصرية، وأهدافها الإستعراضية التي تلْفِتُ أنظار تجّار الأسلحة تتمثل آثارها المدمرة في أولئك السوريين الذين لم تتيسّر لهم ظروف الهرب من جحيم النيران الروسية المنهمرة بزخ الرصاص والقنابل والصواريخ على أهدافها البشرية التجريبية، تماما كما تُجرى التجارب «العلمية والطبية» على فئران مخصصة لهذه الغاية. «فهنيئاً» لروسيا الدولة بما صنعته أسلحتها، وهنيئاً لبضاعتها العسكرية وتحديثاتها التي حسّنت نسبة إصاباتها لأهدافها البشرية، وهنيئاً لتجارتها بالسلاح القاتل وعروضها الحيّة في ساحات الوغى السوري التي جذبت إليها أنظاراً وزبائن وأموالاً هي قمة المال الحرام.
هذه هي روسيا في هذه الأيام بعد أن أطبقت عسكريا على سوريا أرضا وشعبا ومؤسسات، وتجارة وثروات بترولية هائلة لفتت أنظارها وهي ما تزال قابعة في باطن الأرض، جنبا إلى جنب أولئك المواطنين الذين دفنوا أحياء وأمواتا في أرضها المنكوبة.
هي حسابات تجارية ومصلحية بحتة يقوم بها الروس، بصفتهم يمثلون آخر طبعة من طبعات الإستعمار الحديث، وما استحدثته يتمثل في سلاحها الجديد الأكثر دقة في القتل والتدمير، وفي عيونه الثاقبة ودراساته المعمقة في اكتشاف الثروات البترولية والغازية عن بُعْد، ومن ثم عن قرب وتحسس وتلمس، وفي مشاريع إعادة الإعمار التي تسعى موسكو لأن تنال منها حصة الأسد، وفي قواعدها العسكرية التي أنشأتها على امتداد الأرض السورية، حمايةً للنظام ولمصالحها ومطامعها التي تعاقدت عليها لمدة تطاول المائة عام، تعميقاً لتجذرها المستجد في أرض ما إن تكاد أن تنتهي من ظالم متحكّم ومن طاغية مستبد، حتى يخلفه فورا ودون أي تأخر، متحكّم ومستثمر ومستعمر جديد، يجعل الجميع يترحمون على من سبقوه في تكثيف شجون الشعب السوري وآلامه.
كان «بالودِّ» أن نعمد إلى المساهمة في «الترويج» للسلاح الروسي الذي أسهمت الأرواح والدماء السورية في تلميعه ولفت الأنظار إليه وإلى نتائجه التدميرية والقاتلة، وكان بالود أن تُنْشَرَ مع هذا المقال صور الخراب والدمار وأعمال القتل الجماعي والفرز السكاني والتغيير الديمغرافي التي أحدثتها «أنامل» الغزاة الروس «الناعمة» ولكن مجال هذا المقال لا يسمح… فعذراً على هذا «التقصير» .
قبل أيام نقلت إلينا محطات التلفزة، ومن مصادر روسية، صور الأطفال والنسوة الشيشانيين والقوقازيين الذين «ورّدتهم» روسيا إلى الساحة السورية مع أرباب عائلاتهم الذين سبق لهم أن قاتلوا الروس في قلب روسيا، فأطلقوهم بشتى سبل الترغيب والترهيب وصولا بهم إلى سوريا حيث لقوا حتفهم بعد أن كانوا في طلائع المقاتلين الداعشيين، وقد أورد عدد من المحللين السياسيين الغربيين، أن ذلك كان تخطيطا للرئيس بوتين يرمي إلى جمعهم في أتون الحرب السورية والتخلص منهم هناك في أكثر من مجزرة جماعية، عن طريق القصف الروسي بمؤازرة قاصفين آخرين شاركوا في تقبيل يد بوتين لجره إلى أتون الحرب السورية، إلاّ أن الإكتشاف الذي أعاد حسابات من بيدهم الرأي والسلطة، وتحسباتهم من عودة من تبقى حيّا من أولئك المقاتلين، إلى موقع التخوف من عودتهم إلى بلادهم وإلى التفرغ لأعمال إرهابية متجددة داخل روسيا نفسها، ها هم اليوم يحاولون استعادة صورة «إنسانية» فقدوها في ممارساتهم القاتلة ضد السوريين من خلال استعادة أطفال بعض القوقازيين والشيشانيين والعودة إلى محاولات دمجهم في المجتمع الروسي تجنباً لواقع مستجد قد لا تحمد عقباه، وقد تم ذلك وسط ضجيج إعلامي وصور تلفزيونية حاولت روسيا أن تثبت بها أن استهدافاتها الدموية والترويجية، هي تصرفات «إنسانية» محضة، سبقها إليها النظام السوري والغزو الإيراني ولواحقه، إضافة إلى حزب الله اللبناني الذي استفاق فجأة على أن عليه أن يؤدي «واجبه الإنساني» تجاه النصرة وداعش، متعهداً مسيرتهما في طوابير البوسطات المبردة، لإيداعهم بسلام آمنين في مواقع جديدة يؤدون فيها دورهم في تمثيلية هزيلة الحبك دبّرت معهم على الخط الممتد والواصل ما بين طهران وشاطىء البحر المتوسط مروراً بالضاحية وبيروت وكل الأماكن التي تتوق إلى سيادة ما، تنافس وتعلو على سيادة الدولة اللبنانية، وها هي مستجدات النصر المستحدث للحزب تطلق من إطارات عالية النبرة تحتفل بنصر لا يعترف اللبنانيون إلاّ بجزئه المتعلق بنصر الجيش اللبناني، معتبرين أن هذا الجيش قد رفع رأس لبنان عاليا بالقدر الذي أتيح له، وأن ما تم قبل ذلك وبعده من مفاوضات أوضحها السيد حسن وأضاء على لقائه مع الرئيس الأسد وعلى مسيرة بوسطات الخمس نجوم باتجاه الحدود السورية العراقية، مطلقا بعد ذلك تحذيرا من التعرّض للمسيرة الداعشية وحفظ أرواح من على متنها، مطالبا بأخذهم بالرحمة والرأفة، دون أن ننسى «خدمات» الحِصارات التي طاولت مدنا وقرى يسكنها ملايين المواطنين السوريين الأبرياء حيث مرّ فيها المتباكون الجدد، مرورا كاسحا ماسحا لما تيسر لهم من خلال أعمال القتل والتدمير، حارمينهم من كل وسائل العيش التي كان يمكن أن تُبقي أرتالا منهم على قيد الحياة. إلى كل هؤلاء ننقل «الشكر كله» على ما قدّموه من عون «إنساني خالص ومنزّه» إلى مئات الألوف من المواطنين السوريين الأبرياء خاصة وأن التعامل الرّحيم بات محصورا في هذه الأيام السوداء بالدواعش والنصراويين الذين جُلبوا إلينا وإلى سوانا بعد إطلاق سراحهم من بواطن السجون السورية والعراقية المالكية.
المحامي محمد أمين الداعوق