Site icon IMLebanon

الانسحاب الروسي المعلن عنه في أيلول الماضي

مفاجأة اعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سحب الجزء الأكبر من قوة بلاده التدخلية في سوريا، والمسارعة الى التطبيق المشهدي لهذا الاعلان، قد يقلّل منها أنّ موسكو نفسها، يوم دشّنت هذا التدخل الحربي في أيلول من العام الماضي، قدّرت مدّته بنحو أربعة أشهر. 

من وجهة النظر الروسية الرسمية، أدى التدخل هدفيه المرجوين: انقاذ النظام السوري من عملية تهاويه بين براثن الجماعات المسلّحة المناوئة له وبمنأى عن أي حل سياسي، واعادة تأهيل العملية السياسية على قاعدة «الندية الأميركية – الروسية»، وبالارتكاز الى أول هدنة جدية، على هشاشتها، تعرفها الحرب السورية منذ اندلاعها. 

بالتوازي لم يكن التدخل مكلفاً لموسكو. صحيح أنه «تصادف» مع أزمة تهاوي سعر صرف الروبل، لكنه «تصادف» أيضاً مع التقارب الروسي – الفرنسي، ثم الروسي – العربي، الأول على خلفية هجمات باريس، والثاني على خلفية مواقف باراك أوباما المعتبرة عربياً «محابية لإيران». 

بالنتيجة، مكّن التدخل الجوي الروسي المتواصل لأشهر عدة النظام السوري من الوقوف على قدميه مجدداً، وبشكل لن يزول مفعوله مباشرة بعد الانسحاب، لكن الانسحاب يأتي فيقوي قدرة التحكم الروسية بالوضع السوري، بما في ذلك وضع رأس النظام السوري نفسه، بدلاً من أن يؤدي استمرار النمط نفسه من التدخل الى استفادة بشار الأسد منه وتحلّله، وحليفه الايراني، من التوجيه الروسي العام، تباعاً. 

الانسحاب بحد ذاته سيبقى نسبياً ما دمنا نتكلم في الأساس عن قوة تدخل جوية، من الميسر اعادة نشرها في سوريا أنى دعت الحاجة بالنسبة الى الروس. وبالطبع، مرت فترة من الوقت على التزام روسيا انسحابها من شرق اوكرانيا، لكن الجميع يدرك الطبيعة المتبدلة .. والتدخلية .. لذاك الانسحاب. 

لكن نسبية الانسحاب لا تعني أننا لسنا أمام لحظة فاصلة. بالعكس. التدخل الجوي في شكله الذي عرفناه من أيلول الى الآن انتهى، وان كانت المرحلة المقبلة سوف تشهد عمليات تدخل «كوماندوسية» روسية، مضبوطة على تموجات العملية السياسية واحتقاناتها. 

الآفاق المتاحة أمام العلاقات الروسية – العربية والروسية – الغربية ستلعب دوراً أساسياً في تحديد «النسبة الواقعية للانسحاب». بالتوازي، استمرار الجفاء الروسي – التركي، واستمرار التقاطع الاستراتيجي بين موسكو وطهران في مسائل عديدة، سيدفع دفعاً بالاتجاه الذي يحد من آفاق التقارب الروسي – العربي. السؤال هنا: الى أي حد؟ لا يمكن تقرير ذلك الآن بشكل حاسم. 

فمن المبكر القول ان موسكو انتقلت الى خيار «الاوتانازيا» (الاماتة الرحيمة) لنظام آل الأسد، ذلك ان استفادته من شهور تدخلها لا تزال سارية المفعول ولن تتبخر بين ليلة وضحاها، في حين انه لم يعد بمقدوره شن عمليات هجومية واسعة، وصارت مصلحته في الحفاظ على الهدنة الحالية، حتى اشعار آخر. لكن الحفاظ على الهدنة لن يكون ممكناً من دون «انفتاح النظام» على احدى فكرتين: اما خسارته رأسه، أو نأيه بعض الشيء عن حليفه الايراني، أو كلا الأمرين معاً. 

الاستبلشمنت الروسي يهنئ نفسه في هذه الأثناء بأنه برع في اختيار لحظة التدخل ولحظة تعليق التدخل. المراقب ليس مضطراً للمصادقة على صحة هذه البراعة أو عدمها، لكنه ليس بوسعه أبداً المكابرة على حيوية السياسة الروسية بازاء المسألة السورية: هي حيوية ليس بالمستطاع حسابها طول الوقت من زاوية ربح أو خسارة. الانسحاب أتى فعلاً بعد نجاح التدخل الروسي في التعويم النسبي لنظام آل الأسد، لكنه يريد كانسحاب تحويل الرصيد الى تعويم الديبلوماسية الروسية نفسها، ودون ذلك صعوبات كثيرة.