خاض الروس معارك كثيرة من أجل الشرق الأوسط، كحزب شيوعي وكدولة. وبدا في الخمسينات كأن السوفيات سوف يسبقون الأميركيين إلى الحلول محل الاستعمار الهرِم، بريطانيا وفرنسا. وبالاختلاف عن أميركا، كانوا يحملون إيديولوجيا جذّابة للشعوب الفقيرة تجتمع حولها. وتلك أهم دروس السنيور ميكيافيللي: ابحث للمقاتلين عن دعوة توحّدهم. أعطهم مشهّياً جميلاً للموت.
لكن الروس خسروا جميع المعارك، كدولة وكحزب. هُزموا في ظفار، حيث أصبح أبرز رجالهم أقرب رجال السلطان قابوس.
وهُزموا في اليمن الجنوبي، حيث طرد المؤذّن نداءات ماركس. وطُردوا من مصر التي بدت لسنوات كأنها صارت أرضاً وبحراً لهم. وباعهم القذافي عندما ارتعد من هزّ الذّيل الأميركي. ولما ظنّ صدام حسين أن موسكو سوف تدعم غزوة الكويت وتطّبق “معاهدة الصداقة الدائمة” كان ميخائيل غورباتشيوف قد أدرك في الكرملين أن الاتحاد يتداعى من كثرة دعم الشهوات السياسية الخرقاء.
من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، لم تبقَ سوى سوريا. حافظَ، بارع البقائيات، حافظ الأسد على علاقة خاصة مع موسكو وبدأ علاقة جديدة مع أميركا. ويذكر فاروق الشرع في مذكّراته “الرواية المفقودة” أن غورباتشيوف نفسه سأل ضيفه السوري عن سرّ المهارة في الملاحة بين التناقضات، وهي كثيرة في سوريا كما هي في روسيا. وعندما انقلب العرب ضد السوفيات في أفغانستان قال الأسد في نفسه، على الأرجح، هذا أهم دَين أعلّقه في عنق الروس. لن أنضم إلى المعسكر المضاد.
مات الجنرال فرانكو من غير أن يعترف بإسرائيل، وفاء لقتال المغاربة إلى جانبه في الحرب الأهلية. وكما أن للبابا حرساً سويسرياً يلازم باب مخدعه، ظلّ الحرّاس المغاربة، بثيابهم الفضفاضة، حرس فرانكو. وعندما قرأتُ قبل سنوات سيرة الجنراليسيمو بقلم أحد أساتذة أوكسفورد، شعرت أن مسيرة فرانكو كانت بين قراءات زعيم “الحركة التصحيحية”، الذي أنهى عصر الانقلابات الطويل، وتربَّع إلى النهاية.
في قلب الروس، على الأرجح، “وفاءُ دولة” للدَّين السوري. والوفاء ليس سمة الدول الكبرى ولا شيمتها، لكنه عندما يلتقي المصلحة القومية، يُصبح كذلك. كُتبت مئات التحليلات عن موقف فلاديمير بوتين من الصراع في سوريا وعليها، ولعل أكثرها واقعي، لكن المتفق عليه أن بوتين الأكبر لا يريد أن يفقد ما حلُم به بطرس الأكبر وكاترين الكبرى، وسائر القياصرة، على تعدُّد ألوانهم. سوريا هي زرقاء المتوسط!
الحقيقة أن الشبَه الآن أعمق بين بوتين العقيد السابق في الـ”كي. جي. بي.” وبين نيقولوات آل رومانوف. بدل الحزب الشيوعي تلعب الكنيسة الدور المؤثّر في اتجاهات الكرملين، من حوض الفولغا إلى حوض المتوسط، وكان فقيد الـ”كي. جي. بي.” الأشهر في الشرق العربي، يفغيني بريماكوف، يردّد دائماً: لا يمكن أن يغرب عن بالنا أن العراق لا يبعد أكثر من 200 ميل عن الاتحاد السوفياتي!
في هذا العراق، في الموصل، طُرِدَ آخر أتباع الكنيسة الأرثوذكسية، مثلهم مثل الايزيديين والصابئة. وفيه وفي سوريا، يتدرّب الجهاديّون الروس على المعارك المقبلة في الشيشان والقوقاز وقلب موسكو، التي أحرقها الروس ذات يوم في وجه نابوليون لئلا يحتل إلا الرماد.
الروس والعرب علاقة معقّدة. مرة يقف بينهم الإلحاد، ومرة تقف الكنيسة. ومن هذا الجانب مرة يقف الإيمان ومرة التكفير. أحد أسباب تفكّك الإمبراطورية السوفياتية كان الخوف من تكاثُر العنصر المسلم. العام 2000 كان سيصير من كل ثلاثة جنود سوفيات جندي مسلم. لذلك، عندما أُعيدت صياغة الجمهورية الاتحادية الروسية، تخلّت موسكو المركزية عن معظم الجمهوريات الإسلامية ومعظم آسيا الوسطى. محنة أفغانية واحدة تكفي. ونحن ننسى دائماً أن فلاديمير بوتين تحكّم بالكرملين لأنه محا غروزني محواً من خريطة المدن وحوَّلها إلى ظلال دامسة، وأنسى الروس هزيمة أفغانستان.
لكن حربه في سوريا ليست حربه في غروزني. الكلام الذي يكرّره عن مساعدة النظام في وجه الإرهاب، لا يمنع أن ثلثي سوريا صارا خارج سيطرة التحالف السوري الإيراني الروسي. مرة أخرى، القوة الروسية لا تفيد تماماً حلفاءها العرب. ولطالما أنحى العرب باللوم على السلاح السوفياتي في خسائر الحروب، مع أنها الدبابات التي ربحت معركة برلين، والخبرات التي ربحت حرب فيتنام.
علاقة معقّدة. بعد 1948 والسلاح الفاسد، أو المضحك، المتواطئ، خاض العرب جميع حروبهم ضد إسرائيل بأسلحة سوفياتية. وجميعها انتهت إلى الخسارة إلا العبور المصري الموقت للقناة العام 1973. يومها، أعلن أنور السادات أن “99% من أوراق الحل في يد أمريكا”، وذهب إلى كمب ديفيد يستعيد سيناء برعاية جيمي كارتر. عندما يقول رئيس مصر إن 99% من أوراق الحل في يد أمريكا، إنما يريد القول إن الورقة السوفياتية صفر، وإن التحالف الذي بدأ العام 1956 لم يؤدِّ إلى شيء على مدى الجبهة الشرقية، بما في ذلك الجزء المتعلّق بالمقاومة الفلسطينية، التي بدأها أبو عمار في موسكو وبكين، وأنهاها مصافحاً إسحق رابين وشمعون بيريس في حديقة البيت الأبيض، ثم متخفّياً في منزل مموّه في أوسلو.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تضاءل دور الكرملين في المنطقة إلى ما دون الواحد في المئة الذي أبقاه له السادات. عاشت موسكو فترة انتقالية مضطربة ما بين مثاليات غورباتشيوف وأقداح بوريس يلتسين. وفي هذه الأثناء لم تعد هزيمة أفغانستان في تورا بورا، بل بدأت تتفجّر في قلب الاتحاد الروسي. وأمام مظاهر الانهيار الجديد والخوف من المزيد من التفكّك، لا شك في أن “الدولة الروسية العميقة” عادت إلى الظهور وانتقت ضابط الـ”كي. جي. بي.” السابق لكي يُشهر قبضته. وقد أشهرها بوتين مثل ملاكمي الضربات القاضية. لا تدَع خصمك ينهض مرة أخرى. لا جولة ثانية.
لكن الملاكمة فوق الحلَبة السورية، كانت مثل تاريخ العرب والروس، شديدة التعقيد. في الماضي كانت سوريا تخرج من دمشق لتخوض حروبها، فحوّلت جنوب لبنان إلى جبهة بديلة من الجولان المحافظ على الاتفاقات الدولية. ثم قاتلت ياسر عرفات في بيروت وطرابلس. وقاتلت صدام حسين في الكويت. ولكن هذه المرة تحوّلت سوريا إلى ساحة لجميع أنواع القتالات والمقاتلين. ومثل الحرب الأهلية الإسبانية، لن يتوقف على نتائجها شكل سوريا وحدها، بل شكل المنطقة برمّتها. ولذا، مهما بدا النظام السوري منحسراً، فالورقة الصعبة في يده، لأن حليفيه يخوضان معركتهما الأخيرة على الحجم الدولي والإقليمي، روسيا وإيران.
الجميع أمام جدار: موسكو لا تستطيع تقبُّل أي تغيير في دمشق لأنه هزيمتها، والفريق المواجه لا يستطيع القبول بحلّ يُبقي الأسد، لأن ذلك يعني هزيمته، ويعني تغيّر شكل المنطقة والدخول في مستقبل مجهول المعالم، أكثر مما هو الآن.
صعبة أيضاً التسويات التي يكثُر فيها الخاسرون. وأشباح الحرب السورية كثيرة ومتضاربة. ومَن كان يعتقد أن الزبداني سوف تصمد كل هذه المدة في وجه أقوى قوة مقاتلة في المنطقة، ثم من كان يتخيّل أن “حزب الله” سوف يتفاوض على هدنة مع “أشباح” معركة لا تصدّق. لكن الأشباح الذين لا نعرفهم يعرفون بعضهم البعض: من هويّات القتلى ومن نوعيات السلاح ومن شراسات القتال ومن تبادُل الإهانات والهتافات وراء الخطوط. الذي يجري في سوريا تجاوَز بكثير ما جرى في إسبانيا، وحتى في ألمانيا، الحربين اللتين قرّرتا شكل أوروبا وهويّاتها. كل فريق هنا لا يترك خلفه سوى الرماد. وكل فريق يُبيد الهويّات ليزرعها بهويّات أخرى. والجميع يُبيدون تاريخ سوريا الكبرى، التي بدأ تفكيكها الأول قبل مائة عام في عملية باردة وإنما أقلّ ضحايا وخرائب ودماء.
يعبّر الصحافي الأردني ناهض حتّر عن عمق العنصريات التي تدقّ قلب سوريا، عندما يحقّر الهاربين إلى أوروبا. لكنه أيضاً يصوّر عمق الشرخ الذي يحفر في قلب أحد نماذج التعدّد العربي. وهكذا نرى روسيا المنحسرة تخرج للمرة الأولى إلى العلن في دعم “سوريا المفيدة”، أو ما حصره الأسد بأن “سوريا لمن يُدافع عنها”. أي عن البلد الذي خسر عاصمته الاقتصادية الكبرى ومدنه الحدودية والسهول التي جعلته في الماضي غلال روما، ولم يبقَ له فيها سوى الوجود الإداري.
أقام حافظ الأسد توازناته على نحو مثير: تحالف مع مصر والسعودية لإقامة سيبة ثلاثية ضمن القمة العربية، لكنه أقام في المقابل علاقة خاصة جداً مع إيران الإسلامية. وأقام علاقة خاصة مع أميركا من غير أن يحدّ من العلاقة الخاصة مع السوفيات. وأقام علاقة وديّة مع أوروبا الغربية من غير أن يُزعج أوروبا الشرقية، وفْق التقسيم السابق. وارتضى الروس الجُدد من العلاقة الثنائية بما تبقّى لهم من مواقف سياسية وتسهيلات عسكرية وذكريات الرفاقية الاشتراكية.
أراد بوتين أن يحافظ على هذه العلاقة وأن يبني عليها. وبدأ ذلك قبل سنوات بشطب ديون بالمليارات على صفقات سلاح سابقة. لكن أشياء كثيرة تغيّرت في هذا الوقت: تخلّت دمشق عن السيبة الثلاثية ضمن القمة، مع مصر والسعودية. وتحوّلت العلاقة الخاصة مع إيران إلى حلف مواجهة لسائر العرب. وتغيّرت الصورة الدولية التي كانت تبدو فيها سوريا مثل الكنغارو ولبنان في حضنها، لا طريق له إلا حيث تذهب. فقد خرجت منه بجيوشها، وإن بقيت بأوفيائها.
معها، خرج الكثير من صورة الأثر الروسي في بيروت. وعوّض الجميع ذلك برفع مستوى التحالف الثلاثي، إيران دمشق موسكو. وكما يحدث في بلبلات الأمم، صارت الجمهورية الإسلامية أقرب الحلفاء إلى الجمهورية الأرثوذكسية. وبعد الخروج السوري المفاجئ من لبنان، اشتدت حرب المواقع. وصارت الأشياء تسمّى بأسمائها العَلَم: حرب القصير، ومعركة الساحل، وسوريا المفيدة، وفي المقابل دولة الخلافة وجُند الله وجنود الإسلام وما يلي.
في هذ الخضمّ تدور المراحل الأخيرة من حرب المواقع. وفيه خرجت روسيا من مؤتمر جنيف لترفع السلاح إلى جانب فريقها. وفخامة السيد أوباما مأخوذ بالاحتباس الحراري. الشرق يتزعزع من تحت الجميع.