غزو روسيا لأوكرانيا ليس صاعقة في سماء صافية. ولا هو فقط ضربة للأمن في أوروبا والعالم بل أيضاً للأمن الإقليمي في أكثر من منطقة أولها الشرق الأوسط. هو سابقة لها سوابق أميركية وروسية وإقليمية. وهو، في جانب منه، بطاقة دعوة للدول الإقليمية القوية الى فعل ما تريد وتستطيع بجيرانها المسالمين. دعوة لإيران وتركيا وإسرائيل وإثيوبيا للمزيد من التحرك على المسرح العربي باستخدام القوة في العراق وسوريا ولبنان واليمن أو إستخدام النيل في حرب مياه مع السودان ومصر. وكله على طريقة الرئيس فلاديمير بوتين الذي يريد أن يلعب دور بطرس الأكبر وستالين معاً: تزوير التاريخ لتغيير الجغرافيا. فلا بلد اسمه أوكرانيا في نظره. وكل المناطق التي خسرتها روسيا بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي هي “روسيا التاريخية التي سُرقت منها”. وهو مستعد لحماية أي روسي في أي بلد.
هكذا فعل صدام حسين بغزو الكويت و”إعادتها” الى العراق. كان المبرر غير المعلن أن هناك نظاماً عالمياً جديداً يولد. والأفضل أن “يحدد العراق دوره فيه بنفسه بدل أن يحدده له الكبار”. لكن الرئيس جورج بوش الأب جمع أكبر تحالف دولي وأخرج صدام من الكويت بالقوة وأعلن ولادة “نظام عالمي جديد” من مهامه منع التعدي على حدود الدول وسيادتها.
الرئيس بوش الإبن كرر السابقة وغزا العراق بحجج كاذبة بعدما غزا أفغانستان وسط تأييد دولي كاسح بسبب تفجيرات نيويورك. لكن أميركا إنسحبت في النهاية من أفغانستان والعراق. أما بوتين، فإنه يغزو ويبقى. ضم شبه جزيرة القرم الى روسيا. حمى بالقوة إقليمين إنفصاليين في جورجيا واعترف بكل منهما جمهورية مستقلة. وغزا أوكرانيا بحجة الحماية لإقليمي دوغانسك ودونيتكس واعترف بكل منهما جمهورية مستقلة.
وكل غزو أو حدث كبير سبب تبدلاً في النظام العالمي. إنهيار الإتحاد السوفياتي أنهى نظام القطبين لمصلحة القطب الأميركي الأوحد. غزو العراق كان تنفيذاً لإستراتيجية “الحروب الوقائية” ضمن نظام الأحادية الأميركية. لكن الأخطاء وسوء الحسابات في الغزو قادت الى نهاية الأحادية الأميركية وسط صعود الصين وعودة روسيا الى دور إقليمي وعالمي، بحيث بدا العالم متعدد الأقطاب بلا نظام ضابط. وبعد.غزو أوكرانيا، فإن المضاعفات ستقود الى صراع بين محورين: محور أميركي-أوروبي، ومحور صيني-روسي. وكل محور له توابع. أما تركيا، فإنها في ورطة بين إلتزاماتها الأطلسية ومصالحها مع روسيا.
والتجارب أمامنا. تركيا إحتلت جزءاً من شمال سوريا وتقوم بعمليات عسكرية في العراق بداعي الأمن القومي المهدد من الكرد. إيران تهيمن مع ميليشياتها على أجزاء من سوريا بالتفاهم مع موسكو ودمشق، كما على اليمن. ولا شيء يمنعها من الهيمنة الكاملة على لبنان. ولا شيء يمنع إسرائيل من غزو لبنان مجدداً بحجة أن “حزب الله” يهدد أمنها القومي بصواريخه ومسيّراته. أوكرانيا في أكثر من بلد.
وقديماً قال هراقليط: “الحرب أب كل الأشياء”.