IMLebanon

روسيا في قوتها وضعفها؛ تحدي القرن 21

كشف الرئيس فلاديمير بوتين، في رسالته السنوية إلى الجمعية الاتحادية الروسية، أوراقه كافة. تحدث عن نقاط قوّة بلاده، ونقاط ضعفها، وحدّد أهداف موسكو الاستراتيجية، بلا غموض؛ الملاحظة الأولى، هنا، تتعلّق بالأداء السياسي الذي يخلو من الألاعيب التي تملأ الخطاب السياسي الدولي، وتهبط به إلى مستنقع آسن من الأكاذيب والديماغوجيا والأيديولوجيا وازدواجية المعايير. مع بوتين، ثمة خطاب جديد، واضح حاسم صريح، لم يكن معروفاً حتى في السياسة السوفياتية.

لدى روسيا نقاط قوة أساسية: بلاد شاسعة المساحة والثروات، و3 صناعات على مستوى عالمي: الطاقة، بما فيها الطاقة النووية، والفضاء، والسلاح الذي أثبت تفوّقه الكاسح في القرن العشرين؛ بالإضافة إلى قاعدة تقنية ــــ صناعية لم يجر، بعد، استغلالها للمنافسة الدولية. وهذه أولى نقاط الضعف الروسي، بالإضافة إلى الندرة السكانية وصغر حجم قوة العمل بالنسبة إلى المساحة والامكانات، ومشكلات الزراعة، وضعف التنوّع الاقتصادي، وهيمنة الدولار الأميركي على المبادلات الدولية والنظام المصرفي العالمي.

هناك، لدى القيادة الروسية، حلول استراتيجية لنقاط الضعف: الانفتاح والشراكة والمقايضة. ولعله من الصعب على الدول ذات الاقتصادات المتحركة أن ترفض العروض الروسية وفق هذه المنظومة، إلا في حالة الغباء، كما هو حال بلغاريا التي أقرّت صحافتها بأنها تمثّل «الغبي رقم 1» بسبب امتثالها للعقوبات الغربية، وخسارتها، بالتالي، لحصّتها في سيل الغاز الجنوبي، البالغة عائداتها 400 مليون دولار سنويا. وفي الواقع، إن أوروبا كلها تعاني من الغباء لإقدامها على مقاطعة روسيا، بما يرتد عليها من خسارة.

يركّز بوتين على الشراكة مع الدول الأجنبية على أساس فصل الاقتصاد عن السياسة؛ بمعنى فتح الباب أمام شراكات قائمة على المنفعة المتبادلة ــــ والمقايضة ــــ بلا حدود؛ هنا، سنكون أمام منافسة اقتصادية دولية من نوع جديد، لا قبل للنظام الرأسمالي الغربي بالسبق فيها؛ فأي الدول الغربية تلك التي تشارك الآخرين بالتكنولوجيا، وأيها التي تقبل المقايضة؛ إنها ضربة تحت الحزام للغرب.

مع الحلفاء في البريكس، هناك ما هو أكثر؛ فلا أحد يستطيع أن يقدّر الانفجار الصناعي المتولّد عن الشراكة بين التكنولوجيا الروسية والقدرة الصناعية الصينية؛ في حقل واحد كصناعة الطائرات المدنية، حيث أنشأ البلدان شركة منافسة للبوينغ والإيرباص، سيشهد العالم، ثورة في مجال كلفة الطائرات وتحديث النقل الجوي، لا قبل للغرب بالتصدي لها.

المقايضة، كنظام للمبادلة، بدأت تتحول إلى واقع مع إيران وتركيا ودول أخرى؛ يمكن الاستغناء، إذاً، عن الدولار، كما يمكن للدول المتعثرة، الاستغناء، قريبا، عن صندوق النقد والبنك الدوليين، بالاعتماد على المؤسستين المشابهتين للبريكس.

واجهت روسيا، الهبوط المصطنع في أسعار النفط، بسياسة عدم التدخل لإنقاذ سعر الروبل، والحفاظ على احتياطاتها الضخمة، وبإجراءات تتحدى النظام المصرفي العالمي صراحة؛ فقد أعلن بوتين إعفاء رؤوس الأموال العائدة إلى روسيا من أي مساءلة قانونية أو أي قيود مصرفية. وهو إجراء سيؤدي إلى شفط الأموال غير الخاضعة للقيود المصرفية ــــ وهي ذات حجم هائل في السوق العالمي ــــ والى ذلك، سيتم تجميد الضرائب لأربع سنوات، وإعفاء المستثمرين من الضريبة لسنتين. بوتين قرر قلب الطاولة على البلدان الرأسمالية الغربية، ووضع نصب عينيه الوصول بمستوى الاستثمار إلى 25 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي في العام 2018.

لا تنوي روسيا الانعزال عن الولايات المتحدة والغرب؛ لكن بوتين رسم خريطة طموحة للشراكة الاقتصادية: آسيا والمحيط الهادي، أفريقيا، أميركا اللاتينية، والشرق الأوسط؛ فالعالم أكبر كثيرا من الغرب، والاقتصادات الناشئة لديها ما تربحه فعلا من شراكة ندّية مع الروس.

روسيا لا تسعى إلى إفشال العقوبات الغربية فقط، ولكنها تطرح تصوّراً عملياً غير مؤدلج ولا مسيّسا لتقويض أسس الهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمي. وهذا هو التحدي الرئيسي للقرن الحادي والعشرين، تحدي التعددية السياسية والاقتصادية وسيادة القانون الدولي. وهو، كما نرى، مشروع يتجاوز، في أهميته التاريخية التقدمية، مشروع إقامة الاشتراكية في بلد واحد أو في منظومة منعزلة تسمح للغرب بتأبيد سيطرته على الاقتصاد العالمي خارجها.

ما هو مصدر القوة الذي يمكّن روسيا من التحوّل إلى منصة لتقويض النظام الرأسمالي الغربي؟ إنه جيشها؛ يقول بوتين: «لن يتمكن أحد من تحقيق التفوّق العسكري على روسيا التي تملك القوة والإرادة والشجاعة لحماية وحدتها وحريتها (.) كما فعلت سابقا مع العدوان الهتلري. هل تذكرون؟».