تغيَّر المشهد في سوريا بشكل جذري منذ وصول الطائرات الروسية. فالقدرات العسكرية الروسية فرضت واقعاً ميدانياً جديداً، وبالتالي معادلة أخرى، لكن ليس أمام الآلة العسكرية الروسية الكثير من الوقت لتحقيق الأهداف المطلوبة منها.
صحيح أنّ الجيش الروسي هو واحد من أهم وأقوى جيوش العالم، وهو وريث الأمبراطورية العسكرية السوفياتية، إلّا أنّ هذا الجيش كان بحاجة لإعادة تحديثه، وهو ما كان يخطط له الرئيس الروسي فلادمير بوتين في مرحلة «طفرة» أسعار النفط والغاز. فقد وُضعت الخطط لأجل ذلك قبل أن يُعاد النظر فيها بسبب التراجع الكبير لأسعار النفط ومشتقاته.
ولم تكن تلك هي فقط نقطة ضعف الجيش الروسي، بل إنّ هذا الجيش الذي بُني وفق العقيدة العسكرية السوفياتية والقائمة على كثافة النار والأرض المحروقة، ليس معَدّاً للتدخّل العسكري في البلدان البعيدة عن حدوده، كما هو حال الجيش الأميركي المدجّج بحاملات الطائرات المتعدّدة والتي تسمح له بإنجاز هكذا مهام.
وباستثناء تجربة أفغانستان لم يتورّط الجيش الروسي وقبله السوفياتي منذ قيام مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية في حرب بعيدة عن حدوده، على عكس الجيش الأميركي الذي قاتلَ في مناطق بعيدة عن بلاده، مثل فيتنام والكويت والعراق وأفغانستان. أضف إلى ذلك أنّ تجربة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان انتهت بخسارة مؤلمة له.
وملخّص هذا العرض السريع مفادُه أنّ موسكو لا تبدو في وارد إطالة عمر عملياتها العسكرية في سوريا انسجاماً مع دروس التاريخ، والأهمّ انطلاقاً من قدرات قواتها العسكرية.
ووضَعت مراكز دراسات أميركية متخصصة مقارنةً بين القدرات الجوّية الروسية والأميركية، وذكرت أنّ عدد طلعات الطائرات الروسية الـ 44 هو 88 طلعة يومياً، أي بمعدل طلعتين لكلّ طائرة. واعتبرت أنّ هذا الرقم جيّد جداً ولكنّه يبقى أقل من طلعات الطائرات الأميركية في حرب الخليج، والذي بلغ أربع طلعات لكلّ طائرة.
ورغم اعتبار هذه الدراسة أنّ الحركة الجوّية الروسية بدت مثيرةً للإعجاب، إلّا أنّها أضافت أنّ الحفاظ على الطلعات المتكررة لفترةٍ زمنية طويلة يتطلّب صيانةً مكثّفة وتوفّرَ قطعِ غيارٍ من دون انقطاع.
وحسب ما أورده مراقبون عسكريون فإنّ إرسال روسيا حاملة طائراتها الوحيدة «الاميرال كوزنتسوف» إلى السواحل السورية هو دليل على العبء العملياتي الكبير، أضف إلى ذلك أنّ حاملة الطائرات هذه أبحرت خمس مرات فقط منذ دخولها الخدمة الفعلية قبل زهاء الـ 25 عاماً، وفي نهاية المطاف ستكون حاملة الطائرات الروسية مضطرّة للعودة إلى مينائها في روسيا لإنجاز أعمال الصيانة.
كلّ ذلك يعني أنّ روسيا مضطرّة لإلزام قيادتها العسكرية بمهلة الأشهر الأربعة التي وضعتها لنفسها والتي يمكن أن تصبح ستة أشهر كحدّ أقصى. بما معناه أنّ العمليات ستتوقّف في أواخر فصل الشتاء، حيث من المفترض «تطهير» «سوريا المفيدة» واسترجاع جسر الشغور، والأهم جعلُ حلب واقعة تحت نفوذ الجيش السوري.
ولأنّ الهدف النهائي يبقى إرساء تسوية سياسية، فإنّ موسكو باشرَت حركتها الجوّية في هذا الإطار، ولا يمكن تفسير زيارة الرئيس الأسد إلى بوتين إلّا من هذه الزاوية. من جهة اعترافٌ كامل بشرعية رئاسة الأسد لهذه المرحلة، ومن جهة أخرى التباحث معه في الأفكار المطروحة للتسوية من دون المرور بالوسطاء وقنوات التواصل.
ويتردّد أنّ موسكو التي وصلها عرض سعودي بالقبول ببقاء الأسد لفترة سنة ونصف السنة كحد أقصى، سمعَت تمسّكاً إيرانياً بإنهاء الأسد لولايته في أدنى تقدير، وإنّ اختبار قوّة المعارضة شعبياً يمكن اختباره في الانتخابات النيابية العام المقبل.
لكنّ موسكو تتحضّر لمهمّة صعبة، وهي الوحيدة المؤهلة لخوضها. فواشنطن متفاهمة معها، وحتى الرياض تبدي ارتياحاً ولو حذراً تجاهها وإنْ من دون إظهار ذلك.
واشنطن تريد إنهاء التسوية السورية للانتقال إلى ملف التسوية السلمية مع إسرائيل، لكي يكون إنجازاً تاريخياً إضافياً في سِجلّ باراك أوباما، وهي ترى فرصة ممتازة لتحقيق ذلك بسبب حشرة الأطراف (إيران، بشّار الأسد، حزب الله) وحاجة الأطراف الأخرى مثل إسرائيل، إضافة إلى استعداد السعودية والفلسطينيين لتوفير الغطاء.
في هذا الوقت باشرَت موسكو بهدوء جَسّ النبض حول لبنان. قيل إنّ ديبلوماسيين روساً تحدثوا عن خطورة الوضع فيه واحتمال انهيار مؤسسات الدولة في كلّ لحظة.
وبدت موسكو مقتنعة باستحالة وصول رئيس للجمهورية محسوب على طرف أو آخر، وأنّه لا بدّ من طرح ملف لبنان جدّياً لحظة وصول مفاوضات جنيف لحسم مدّة بقاء الأسد. وتردَّد أنّ أحد الأطراف الإقليمية اقترح انتخاب رئيس لمدّة سنتين، ما يفتح المجال لإعادة ترتيب الصورة اللبنانية بعد انتهاء المرحلة الانتقالية في سوريا.
لكنّ موسكو أبدت رفضَها لأيّ تعديل دستوري قد يفتح الباب أمام ورشة وتعقيدات كبيرة. إلّا أنّ خطاب أمين عام حزب الله السيّد حسن نصرالله بدا معاكساً لهذه الأجواء الواعدة. ظهورُه المباشر لمرّتين متتاليتين عكسَ في جانب منه ثقته بالوضع الأمني، لكنّه تضمّن أيضاً رسالة مفادها أنّ حزب الله في عزّ المواجهة الإقليمية.
في خطابه ثقة متزايدة بالنصر، لدرجة أنّ السيّد نصرالله قال في لقاء داخلي منذ فترة غير بعيدة: «مرّت ظروف صعبة جداً، ولكن وللمرّة الأولى بدأتُ أرى الضوء في آخر النفق».
وفي خطابه أيضاً هجوم عنيف على عائلة آل سعود، ما يعني أنّ التوتّر في ذروته، خصوصاً بعد كارثة منى. المراقبون يعتقدون أنّ المناسبة قد تكون من أسباب رفعِ حدّة الخطاب. لكنّها أضافت أنّ الهجوم على السعودية قد يكون سببه أيضاً الحرب المفتوحة ومتطلّبات التعبئة الداخلية، وقد يكون يهدف في طريقةٍ ما لدفعِ السعودية لفتح قنوات التفاوض.
وفي هذا الإطار يقول المراقبون إنّ السعودية غير قادرة الآن على التفاوض المباشر، ما قد يؤثر على استقرارها الداخلي بسبب الاحتقان السائد، وإنّ ذلك ممكنُ الحصول مع تحقيق تقدّم في جنيف ليأتي تتويجاً له. وإنّ روسيا قادرة على مواكبة الأمور ببراعة وملء الفراغ الحاصل.