Site icon IMLebanon

الحريري وساكن القصر من متنازل دائم إلى مفاوض وازن

 

 

انتهى حبس الانفاس الذي عاشه اللبنانيون ما بين اللقاءين الأخيرين لرئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري، اللذين استضافهما القصر الرئاسي في بعبدا، وتخلّلهما خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله الذي وضع قوى المجتمع المدني والأجهزة الأمنية والرئيس المكلّف وحاكم مصرف لبنان أمام تبعات الخروج عن إملاءات غير خاضعة للنقاش، وإلا فللحديث صلة. ساكن القصر الذي درج منذ التسوية الرئاسية على اعتبار حدود المؤسسات تقف على مشارف ما يعتقد أنّها صلاحياته، وأنّ توقيعه هو الثابتة الوحيدة في الحياة السياسية ومصدر الشرعية ما فوق الدستورية، وجد نفسه بالأمس أمام واقعة غير مألوفة، وربما أكثر من استثنائية، واقعة أسقطت التسوية الرئاسية المتعثرة منذ أربع سنوات، وأنهت مساراً سياسياً بقي حتى ما قبل الأمس وقفاً على لاعب أوحد، مهمته تسجيل النقاط وإعلان الإنتصارات.

 

للمرة الأولى، وفي القصر الذي يسكنه الرئيس القوي ومن على منبره، وقف الرئيس المكلف سعد الحريري متسلّحاً بالدستور وملتزماً بالصلاحيات المنصوص عليها لجهة تشكيل الحكومة، وتوقيع وإصدار مراسيمها معيداً الأمور إلى نصابها. شكّلت هذه السابقة خطوة على مسار إعادة الحياة إلى أحد المرتكزات الرئيسة التي بنيت عليها وثيقة الوفاق الوطني، وأحدثت قطعاً في مسارٍ التهميش الذي عانته الرئاسة الثالثة منذ الجمهورية الأولى، والذي ما لبث أن تجدّد بعد الطائف على يد سلطة الوصاية السورية ومع حلفائها بعد اتفاق الدوحة. تشكيلة «إملأ الفراغ بالوزير المناسب» ومعها بدعة «الثلث المعطل» أو نسخته الملطفة «الثلث الضامن» التي افقدت مجلس الوزراء استقلاليته كمؤسسة وقدرته على اتخاذ القرارات سقطتا في ساحة القصر، حيث كان يجب أن تُسقطا على يد سيده الذي أقسم على الدستور، قبل أن تسقطهما إرادة اللبنانيين المجمعين في ساحات لبنان، وأمام مرفأ عاصمته المدمّر، وحدوده السائبة ومتاجره الفارغة ومرافقه المقفلة، على حكومة اختصاصيين مستقلين تنقذ الإقتصاد وتعيد لبنان الى موقعه العربي والدولي.

 

حكومة الاختصاصيين المستقلين وإنقاذ لبنان المعزول دولياً والمتهاوي إقتصادياً وإجتماعياً وقضائياً، أضحت جواز العبور المتعارف عليه الذي تتمسك به الدول المعنية بانقاذ لبنان، وهي أقل ما يمكن أن يتمسك به اي رئيس حكومة مكلّف، بل هي شرط ملازم لمن يمتلك الحد الأدنى من الحس الوطني المسؤول والكرامة الشخصية، بعد أن قدّمت حكومات السياسيين أو التكنوقراط المنزوعي القرار نموذجاً نافراً في الفساد الاداري، وتحويل المال العام إلى تمويل سياسي، واستباحة في القضاء والتعيينات والتلزيمات على أنواعها، وبما يجعل من الوقاحة وقلة الحياء بمكان أي محاولة للعودة إلى تكرار التجربة.

 

إنّ جولات المنازلة التي جرت منذ تكليف الرئيس سعد الحريري سواء في بعبدا أو في الشارع أو في التصريحات المتكررة للأمين العام لحزب الله وللوزير السابق جبران باسيل، لم تكن سوى محاكاةً لما يجري في الإقليم بتفاصيله الميدانية والدبلوماسية، ومنها زيارة الوزير لافروف لدول الخليج وزيارة وفد حزب لله إلى موسكو. دعوة رئيس الجمهورية ومن خلفه حزب الله للنائب السابق وليد جنبلاط إلى القصر الجمهوري عبّرت عن استشعارٍ واضحٍ بثقل المأزق الإقليمي على لبنان، فربما غلبهما الاعتقاد أنّ الزيارة قد تسهم في إضفاء طابعٍ محليٍ على الملف الحكومي وإخراجه ولو جزئياً من الكنف الإقليمي. وربما يقف التقدير الخاطئ للموقف بامكانية تحقيق نجاحات منفردة في لبنان وراء اندفاعة رئيس الجمهورية، مستنداً إلى إمكانية تكرار ظروف ما قبل اتفاق الدوحة.

 

الحقيقة إنّ ما يجري في لبنان ليس سوى إسقاط دقيق لما يجري في الرياض وأنقرة وطهران ودمشق وصنعاء، كما أنّ الاعتقاد بإمكانية فصل قصر بعبدا كساحة مواجهة سياسية، عن ساحات المواجهة الميدانية في منشآت أرامكو في الرياض أو ميناء رأس تنورة أو قاعدة الملك خالد الجوية، أو عمليات التحالف العربي الجوية في تعز ومأرب والحجة في اليمن، أو تجنيد ايران للمزيد من الميليشيات الطائفية في حلب، لا يقارب المنطق. بل على العكس من ذلك يمكن أن تضاف إلى ساحات المنازلة تلك، الإجراءات المتخذة من قبل تركيا في ملف الأخوان المسلمين والمرتزقة السوريين في ليبيا، لردم الهوة مع مصر ودول الخليج، وما سيكون لذلك من تداعيات على العلاقات الإقليمية وتوازن القوى بين دولها. كل ذلك يجري في ضوء دبلوماسية أميركية مترهلة تقلق العديد من حلفاء الولايات المتحدة وتساهم في إنتاج تحالفات إقليمية غير مسبوقة.

 

إنّ محاولات التسويق لحرب أهلية أو لسيناريوهات تسرب مجموعات متطرفة إلى لبنان لا تبدو واقعية، فاتساع رقعة الصراع الإقليمي وتعدّد الأهداف وانغماس القوى بكل إمكاناتها لن ينقل لبنان إلى تصدر دائرة الاهتمام. كما أنّ إقفال كل مسالك التسوية الحقيقية وإفقاد الحياة السياسية توازنها عبر الانتهاك المستمر للدستور من قبل رئيس الجمهورية، والتهديد المستمر بالإلغاء، وإهمال عامل الوقت المتقادم لم تكن كلها في مصلحة موقع رئاسة الجمهورية. لقد أعاد تصريح الرئيس المكلّف من بعبدا لبنان إلى ما قبل التسوية الرئاسية، ومن الموقع الجديد للحريري يتبلور انقسام واضح في منظومة سياسية افتقدت تماسكها وأضحت عاجزة عن تبادل الأدوار، ويتكرّس ميزان القوى الإقليمي عاملاً محسوباً في تشكيل السلطة في لبنان أو في انهيارها.

 

بالأمس كرّس سعد الحريري من بعبدا انتقاله من موقع المتنازل الدائم إلى موقع المفاوض الوازن لساكن القصر.

 

مدير المنتدى الإقليمي للإستشارات والدراسات