الأكيد، أنّ الساعات الماضية كانت من بين “أسعد لحظات” كل من رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل لمجرّد سماعهما الأخبار عن امكانية اعتذار رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري. هو يعلم، وهما يعلمان أنّه يعلم، أنّهما لا يريدانه في السراي الحكومي. فجأة انقلب غرام التسوية الرئاسية إلى انتقام. لا مكان فيه للتعايش بين الفريقين.
في قصر بعبدا، كما في ميرنا الشالوحي، قناعة ثابتة بأنّ الحريري مرفوض سعودياً، ولهذا هو يعتمد سياسة الهروب إلى الأمام و”السياحة” في العواصم العربية والغربية بحثاً عن غطاء دولي يعوّض عليه الغطاء السعودي، أو يقنع الرياض بفتح صفحة جديدة مع رئيس “تيار المستقبل”. وطالما أنّ أبواب الديوان الملكي مقفلة، فهذا يعني أن الحريري لن يدخل السراي الحكومي. ولهذا، رفض الفريق العوني تقديم أي تنازل لقناعته أنّ أي تنازل سيذهب سدى لعدم قدرة الحريري على “تقريشه” في المشاورات الحكومية، فضلاً عن رفضه تجديد التسوية الرئاسية.
ما زاد الأمر تعقيداً، هو أنّ الحريري اعتمد في المقابل، سياسة رفع السقوف، والمطالب، التي تترك له مجالاً كبيراً للمناورة، وتعوّضه عن التنازلات التي تكبّدها مذ قرر وضع يديه بيدي الخصوم، وراح الحلفاء، وأبناء جلدته يصبّون الزيت على نار شعبيته وبيئته التي تآكلت على مرّ السنوات… إلى أن انقلب السحر على الساحر.
في ظلّ انكفاء السعودية ورفضها “بلّ يديها” من جديد بالملف اللبناني، اتّكل الحريري على الدعم الفرنسي والروسي والمصري له. لكنّ الثلاثة لا يملكون القدرة على فرض أجنداتهم على الداخل اللبناني. باريس جرّبت حظها أكثر من مرة من دون أن تلاقي أي تفاعل ايجابي من جانب القوى اللبنانية. موسكو يمكنها أن تشجع وأن تتمنى ولكن لا قدرة على الفرض أو تغيير الوقائع. أما الأميركيون فلم يعد يعنيهم الملف اللبناني كثيراً طالما أنّ الحوار صار مع الإيرانيين على طاولة فيينا.
اعتقد الحريري في لحظة العقوبات الأميركية، أنّه سيتمكن من “تطويع” جبران باسيل للدفع باتجاه حكومة تجعل منه رئيس حكومة استثنائياً بقوة الأمر الواقع والحضور من خلال تركيبة وزارية له فيها اليد الطولى. لكنه لم ينجح. ثم رفض كل محاولات باريس لتسوية العلاقة مع باسيل كمعبر إلزامي لقيام الحكومة، خشية من نقمة شارعه… حتى أصيبت الإدارة الفرنسية بالعجز أمام متاهة الملف اللبناني، خصوصاً وأنّها باتت مقتنعة أنّ تهمة التعطيل لا تقتصر على طرف واحد دون سواه. وقد تناهى هذا الأمر إلى مسامع الحريري الذي صار متيقّناً أنّ باريس غير راضية عن سلوكه الحكومي. وهذا ما زاد من فورة غضبه خلال الساعات االماضية بعدما تأكد أنّ جولة وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان تستثنيه. حتى أن محاولات تعديل البرنامج لا تزال تصطدم بعقبات لوجستية.
وبينما تشهد المنطقة حراكاً ديبلوماسياً انقلابياً يشي بانطلاق مرحلة من التفاهمات على وقع مفاوضات فيينا التي يرجّح أن تنتهي عاجلاً أم آجلاً، على اتفاق نووي، يبدو الحريري مربكاً، ومتخبّطاً في أزمته. فلا هو قادر على تقديم مزيد من التنازلات التي ستضيّع عليه فرصة شدّ عصب، بات بأمس الحاجة إليها. ولا هو يملك ترف الخروج من السباق الحكومي، خصوصاً وأنّ ورقتها في هذه اللحظة بالذات لا تقدّر قيمتها، طالما أنّ الزمن هو زمن متغيرات، وقد يأتي على حسابه اذا لم يضمن لنفسه موقعاً. ورئاسة الحكومة هي الموقع الوحيد المتاح راهناً.
لهذا، لم يأخذ الحريري يوماً بنصائح بعض المحيطين به المتحمسين للاعتذار، على عكس الساعات الماضية التي بدا فيها مستمعاً إلى تفاصيل هذا السيناريو الانقلابي، فيما لو قاده، وقلب الطاولة رأساً على عقب. ومع ذلك، يسود الاعتقاد لدى من يعرفونه عن كثب، أنّه لن يفعلها، وأنّ التلويح بهذا الاحتمال لن يصل به إلى حدّ التخلي عن ورقة التكليف، وهي الأخيرة في جيبه. وها هو رئيس مجلس النواب نبيه بري، كما يقول المواكبون، يحاول تهدئته، خصوصاً وأنّهما يشكلان خطّي دفاع عن بعضهما البعض.
في المقابل، يقول المقربون منه إنّ مصلحة الحريري تكمن في تأليف حكومة من الاختصاصيين. وبالتالي لا مصلحة لديه في الجلوس على رصيف الانتظار وتحميله مسؤولية التعطيل، “على قاعدة كلن يعني كلن”. ولذا، اذا كان منطق التسويات الاقليمي سيسود، بعد تعميم تهمة العرقلة، فلتكن للحريري عندئذ خيارات ثانية.
لا ينفي هؤلاء أنّ “تيار المستقبل” لا يستطيع وحده أن يحدث الفارق في التأثير من دون تحالفات، وبالتالي اذا اتخذ الحريري قراره بالاعتذار، سيذهب “المستقبل” نحو خيار التحضير للانتخابات. ويفترض وفق هؤلاء أن تتبلور الصورة خلال الأيام القليلة المقبلة، وقد يكون الاعلان خلال عيد الفطر.
خلال أيام التكليف الـ 190 لعب كل من سعد الحريري وجبران باسيل “صولد”. كل الأوراق على الطاولة. إمّا الربح النظيف وإمّا خسارة كلّ شيء. يكونان أو لا يكونان… والآن يبدو أنّ الأول يخشى أن يكون زمن الخسائر قد بدأ.