بدأت قصة الانتخابات النيابية المبكرة مع «التيار الوطني الحر» من خلال توجيه رسالة إلى الرئيس المكلف سعد الحريري بأنّ هذا الخيار تمّ بحثه كاحتمال للتَخلُص من تكليفه في حال لم يعتذر او يتجاوب مع شروطهم للتأليف.
تختلف الأسباب الموجبة للانتخابات النيابية المبكرة بين «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر»، حيث انّ الأوّل يريدها مدخلاً لتغيير كل السلطة، اي مجلس نيابي جديد ينتخب رئيس جمهورية ويشكل حكومة، لأنّ الإنقاذ، بالنسبة لـ»القوات»، لا يمكن ان يتحقق عن طريق الفريق الحاكم نفسه وفقاً للوقائع وتِبعاً للتجربة. فيما الثاني يريدها حصراً من أجل التخلُّص من تكليف الحريري الذي فشلت كل محاولات إحراجه لإخراجه، وتشكيل الحكومة التي يمسك بكل مفاصلها تحضيراً لمرحلة ما بعد انتهاء الولاية.
فالاختلاف في الأسباب الموجبة يرتقي إلى الجوهر لا الشكل، وبمعزل عن ذلك لا بد من طرح تساؤل أساسي: ماذا لو حصل الحريري على معظم المقاعد السنية وحافظ على حيثيته داخل بيئته وأعادت الكتل النيابية تسميته؟ والجواب واضح وهو انّ تكليف رئيس الحكومة هو رهن إرادة بيئته والكتل النيابية، ولن يكون بمقدور «التيار الحر» التحكُّم بهذا التكليف سوى في حال نجح بإقناع البيئة والكتل معاً، الأمر غير المضمون بتاتاً في ظل علاقة العهد السيئة مع الشارع السني والقوى السياسية على حد سواء.
وبمعزل عن ذاك، لَوّح رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل في مؤتمر صحافي عقده منذ حوالى الثلاثة أسابيع بالانتخابات المبكرة كخيار للتخلُّص من تكليف الحريري، ولكنه أكد في المقابل على مسألتين أساسيتين: الأولى انّ الانتخابات المبكرة لن تبدِّل في نتيجة ميزان القوى السياسي القائم، ما يعني انه لا يقول فقط إنها لزوم ما لا يلزم، إنما يقرّ بشكل أو بآخر بأنّ الكتل نفسها التي ستعيد الانتخابات فرزها ستعيد تكليف الحريري. فهل بدّل باسيل في الأيام الأخيرة برأيه وبات على قناعة مثلاً بأنّ الانتخابات ستعيد خلط الأوراق؟
والمسألة الثانية التي أكد عليها باسيل هي انّ الانتخابات المبكرة على وقع أزمة معيشية حادة يمكن ان تتسبّب بتوترات أمنية لبنان بغنى عنها، فهل تراجعت الأزمة المالية واستطراداً المعيشية ليتراجع باسيل عن مخاوفه؟ بالتأكيد كلا، فكل يوم هو أسوأ من الذي سبقه، والخشية من موقف باسيل تكمن بأن يكون تمهيداً لإطاحة الانتخابات في وقتها، وليس من أجل إتمامها مبكراً. وبالتالي، طالما ان لا تبدُّل في الواقع المالي الذي قد يجرّ إلى قلاقل أمنية، ولا تغيير في ما يمكن ان تفرزه الانتخابات، فيعني انه من غير المفترض ان يتغيَّر موقف باسيل بين أسبوع وآخر.
وبالتوازي مع كل ذلك، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه أيضاً: أيّهما أسوأ لباسيل ان يبقى الحريري رئيساً مكلفاً حتى نهاية العهد، أو ان يخسر أو ان يتراجع مسيحياً في الانتخابات المبكرة بما يُضعف حيثيته وتمثيله النيابي وينعكس سلباً على هدفه الأساس المتمثِّل برئاسة الجمهورية؟
فلا ضير لباسيل ألا تتشكّل الحكومة وان يبقى الحريري رئيساً مكلفاً وحسان دياب رئيس حكومة تصريف أعمال، إنما الأساس بالنسبة إليه ألا يتأثر هدفه المركزي والأساسي وهو السعي إلى رئاسة الجمهورية، خصوصاً انّ هذا الهدف تخلخل وتضَرّر في السنوات الأخيرة التي سبقت انتفاضة 17 تشرين وتلتها، بدءاً من الانهيار المالي، مروراً بالانتفاضة الشعبية، وصولاً إلى العقوبات الأميركية، فيما لم يبق لديه سوى ورقة الحَيثية المسيحية، فهل هو في وارد التخلي عنها طوعاً للتخلُّص من الحريري وتقديمها هدية على طبق من ذهب لخصمه المسيحي «القوات اللبنانية»؟
وماذا عن موقف حليف باسيل «حزب الله» من الانتخابات المبكرة؟ وهل الحزب مع هذه الانتخابات أم ضدها؟ ومعلوم انّ هذا الأمر غير مطروح بالنسبة إلى الحزب لا من قريب ولا من بعيد لأربعة أسباب أساسية: رفضه المَس بولاية مجلس النواب، رفضه الاعتراف بوجود مزاج شعبي مُغاير لما كان عليه إبّان الانتخابات الأخيرة، رفضه إجراء الانتخابات في توقيت سياسي غير ملائم بسبب الانهيار المالي، الأمر الذي يخدم أخصام الحزب ومحوره، ورفضه الذهاب إلى انتخابات تؤدي حكماً إلى خسارته الأكثرية النيابية على أبواب تحولات خارجية واستحقاقات دستورية في طليعتها الانتخابات الرئاسية، وموقفه يستند إلى إحصاءات وأرقام لا يتكئ فقط على الانطباع السياسي.
فقد لا يتدخل «حزب الله» في تأليف الحكومة، وقد يتدخّل من دون أن يضغط على حليفه العهد للتنازل، ولكن مسألة خسارته الأكثرية النيابية في مرحلة تحولات خارجية ومفاوضات على قدم وساق واستحقاقات دستورية، فإنّ هذه الخسارة ترتقي إلى مصاف القرارات الاستراتيجية التي لا يسمح لحلفائه فيها باتخاذ قرارات تؤدي إلى هذه النتيجة، ما يعني ان باسيل ليس حراً في قرار من هذا النوع، خصوصاً انه بحاجة لهذه الأكثرية في معاركه السلطوية، وبحاجة لدعم الحزب وعدم إغضابه في المسائل التي يعتبرها مصيرية، وبالتالي هل يمكن ان يستقيل من مجلس النواب خلافاً لإرادة الحزب؟ بالتأكيد كلا.
أمّا على مستوى باسيل فإنّ الانتخابات النيابية المبكرة قد تؤدي، وهذا على الأرجح، إلى خسارته ثلاثية يتكئ عليها في انتخاباته الرئاسية: التكتل النيابي الأكبر مسيحياً، وهذا التكتل يمنحه الحيثية الأولى على المستوى نفسه، والأكثرية النيابية لمحور 8 آذار، وبالتالي لو عادت إليه من مصلحته الدفع نحو التمديد للمجلس النيابي لا الذهاب إلى انتخابات مبكرة، ولكن مسألة إجراء الانتخابات في وقتها تمّ تدويلها وبات من الصعوبة على أي طرف اللعب في توقيت الانتخابات، وذلك في ظل العين الدولية على لبنان منذ انفجار المرفأ، إلا انه مع الفريق الحاكم يمكن توقُّع أي شيء.
فهل باسيل في وارد خسارة ورقة القوة الوحيدة التي ما زال يتلطى خلفها، خصوصاً ان كل الإحصاءات تؤكد تقدُّم «القوات اللبنانية» عليه؟ وهذا من دون الكلام عن التصويت الاعتراضي للناس ضد العهد الذين يحملونه بالأولوية مسؤولية ما أصابهم، وخوضه الانتخابات في نهاية العهد وبما يختلف عن الانتخابات الأخيرة التي أجريت في مطلع ولاية هذا العهد والآمال التي كانت معلّقة عليه وتبدّدت، والقوى التي كانت تتسابق للتحالف معه وأصبحت تخشى التقاط مجرّد الصور معه؟
فلكل هذه الأسباب مجتمعة لا يخرج كلام «التيار الوطني الحر» عن الانتخابات النيابية المبكرة عن سياق المناورة السياسية للضغط في اتجاهين في سبيل تأليف حكومة بشروطه، وتأليف الحكومة يشكل أولويته في المرحلة الحالية لا الانتخابات المبكرة: الاتجاه الأول ضد الرئيس المكلف بطبيعة الحال في محاولة لدفعه وجَرّه إلى التنازل حكومياً تجنباً لانتخابات من هذا النوع يراهن «التيار الحر» بأنّ الحريري لا يريدها وليست في مصلحته.
والاتجاه الثاني هو من أجل الضغط على «حزب الله» للخروج من قاعدة المساواة التي أرساها في تعامله مع العهد والرئيس المكلف، وتهديده أيضاً بانتخابات يدرك باسيل بأنّ الحزب لا يريدها إطلاقاً في هذا التوقيت بالذات الذي أولويته فيه استمرار الستاتيكو السياسي الراهن بانتظار ما قد تفضي إليه المفاوضات النووية غير المباشرة بين واشنطن وطهران، وبالتالي يقول للحزب إمّا أن تضغط على الحريري للتنازل أو أن أذهب إلى انتخابات مبكرة.
وفي هذا الوقت عاد حديث التأليف ليتصدّر مجدداً في ظل الكلام عن إحياء مبادرات ووساطات وفرصة تلوح في الأفق، فهل مصير المحاولة الجديدة سيكون كسابقاتها؟ وهل الرئيس المكلف على استعداد للتجاوب مع نصيحة رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط وغيره للقاء مع باسيل كمعبر للتأليف وإلّا لا حكومة؟