IMLebanon

الحريري الضحيّة الأولى للرياض وفريقه والحكومة

 

 

في بديهيات رجال الأعمال، أن لا أحد يمسّ برأس المال. ما فعله الرئيس سعد الحريري، هو أنه مسّ برأس المال. وهنا ليس المقصود، المعنى النقدي، رغم أنه مسّ به، وصرف الكثير منه، في السياسة وعلى المقرّبين منه والمصالح السياسية والتسويات، منذ أن أصبح عميد عائلة الحريري وتيار المستقبل عام 2005، بل أيضاً رأس المال السياسي السعودي، الذي كان يشكّل الضمانة والحماية له خارجياً ومحلياً. واليوم يدفع الحريري ثمن مسّه بالرصيد الذي كان له في الرياض، وفي دول عربية، فلا تنفع معه وساطة باريس التي ابتعدت عنه كرمى لمصالحها. موقع الحريري أصبح يثير تساؤلات، فالرجل أصبح أولى ضحايا تأليف حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. والضحية السياسية تحتاج إلى وقت كي تعيد حساباتها السياسية، وتستوعب ما حصل معها منذ أن قام بالتسوية الرئاسية، واستُدعي الى الرياض وقدّم استقالته منها وعاد منها بوساطة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الى بيروت، وصولاً الى تقديم استقالته النهائية وتكليفه واعتذاره. ليس سهلاً القيام بمراجعة سياسية، لكنها تصبح مطلوبة أكثر فأكثر اليوم، ولا سيما بعدما أصبحت الرياض تثير حول وضعه المالي ظلالاً سوداء، وتتحوّل الخلافات العائلية إلى جزء أساسيّ من المشكلة الحريرية، فتترك أثرها مضاعفاً في المرحلة المقبلة، حين لا يعود ساكن بيت الوسط رئيساً للحكومة مكلفاً أو منتظراً التكليف.

 

الأكيد أنه ليس سهلاً القيام بمراجعة الأداء السياسي، منذ أن كان نادر الحريري مستشاراً بصفة المقرر والآمر الناهي، الى أن تسلّمت الدفة مجموعة المستشارين السياسيين والإعلاميين الذين أكلوا وشربوا واستفادوا من بئر الحريري، لكنهم أوصلوه الى الطريق المسدود إياه منذ سنوات، في رسم طريق الخلافات داخل محيطه ومع حلفائه السابقين وحلقات سياسية ابتعد عنها تدريجاً لمصلحة مجموعة زيّنت له الطريق الى السرايا الحكومية، من خلال خطوط متعرجة ستخرجه حتماً من الحياة السياسية، إذا استمرّ الأداء على ما هو عليه حتى الانتخابات النيابية.

أن يكون الحريري الضحية، اليوم، لأسباب عدة، اقتضت من الحرس القديم القيام بمراجعات أخيرة ومتعددة، لأن الرجل بحسب محبّيه هو ضحية أعضاء فريقه الطفيلي وأدائه المتعثّر الذي رسم سياسات أوصلت الحريري الى أن يكون خارج القصر الحكومي، وسط قلق مستقبلي أن يصبح رئيس كتلة نيابية تقلّ عدداً بأشواط عمّا هي حالها اليوم.

حين تسلّم رفيق الحريري مشعل زعامة بيروت والسنّة من آل سلام، لم يكن مقدراً أن تكون هذه الزعامة على طريق الأفول بعد أقل من ثلاثين سنة، وبعد 16 عاماً على اغتياله، لأن ما قبل به الحريري من تزكية ميقاتي، رئيساً للحكومة هو أولى العثرات على طريق تراجع مساره السياسي، مهما كان تبرير هذا القبول. فترشيح تمام سلام كان الخطوة الأساسية التي لم يتمسّك بها الحريري، رغم أن سلام كان رافضاً لفكرة عودته الى حكومة مع رئيس الجمهورية ميشال عون. فسلام هو الحارس الأمين لهذه الزعامة، واختياره كان سيبقي هالة الحريرية قائمة، كما الزعامة في مكانها رغم كل الإصابات التي لحقت بها. لكن الحريري أو اللصيقين به راهنوا على خيارَين خاطئين، موقف باريس، وموقف عون من أنه لن يعطي ميقاتي ما لم يعطه للحريري، وخُدعوا بموقف ميقاتي نفسه الذي أوحى لرؤساء الحكومات السابقين بأن الاعتذار هو الحدّ الذي يدخل به المفاوضات مع عون، وأنه لن يعطي لعون ما لم يعطه إياه الحريري. والعكس كان صحيحاً منذ اللحظة الأولى ولا يزال رغم كل تصريحات ميقاتي المواربة حول تركيبة الحكومة. وميقاتي بعد السرايا هو غيره قبلها. والحرس القديم يدرك ذلك تماماً وبدأ يتحسّب ليوم الانتخابات، في حكومة رئيسها وحده مرشح، لقيادة كتلة نيابية، وليس مجرد مرشح على لائحة حلفاء.

بات الحريري خارج السرايا وأسير علاقات وحسابات ستجعله لا يخطو خطوات ناقصة، فتفتح له ملفات من غير أن يحسب لها حساباً. وفي لبنان، من السهل فتح ملفات غب الطلب، وإقفالها غب الطلب. لذا هناك من يدفعه الى الالتصاق أكثر بالرئيس نبيه بري وبحزب الله على قاعدة أن الأخير ظلّ متمسكاً بعلاقة جيدة معه، في وجه احتمالات قد تضاعف من أزماته المالية وهو الذي يقبل على انتخابات. فيما وجهة النظر الأخرى، وبعض مروّجيها ممّن هم مصابون بإحباط واضح مما آلت إليه الأوضاع الحكومية، تزيّن له في المقابل ضرورة القيام بمراجعات سياسية مع حلفاء وأصدقاء وفتح صفحات جديدة من الحوارات السياسية، قبل الشروع في برنامج عمل الانتخابات، في ظل نقاشات حول جدوى إعطاء الثقة للحكومة وسلبيات عدم إعطائها وكيفية تقسيم الأصوات. فالانتخابات هي الاستحقاق الأهم، ليس للحريرية السياسية بل لمستقبل الحريري السياسي كزعيم وليس كوريث، بعد 16 عاماً من العمل السياسي. لذا فإن المراجعة الضرورية تقتضي العمل سريعاً، كي لا تمرّ أشهر الانتخابات كما أشهر انتظار تأليف حكومة، عبثاً، فتتضاعف الخسائر من دون أيّ أرباح. كما حصل اليوم، إذ لم يكن يفترض أن يدفع الحريري وحده ثمن 17 تشرين الأول، وفي هذه النقطة قد يكون لحق به الظلم الكثير ممّا لا يستحقّه.