Site icon IMLebanon

سعد الحريري «البطل»… حتى إشعار آخر

 

في طريق العودة من جولةٍ «بيروتية»، ينبعث صوت فيروز تغني «يا خوفي إبقى حبك بالإيام اللي جاي… حبسي إنت وحرّيتي إنت… وإنت لي بكرهو واللي بحبو إنت». تلخّص كلمات جوزيف حرب هذه مخاض المشاعر المتضاربة لجمهور تيار المستقبل الذي لم يشفَ، بعد عام من الهجران، من جروح العلاقة مع «الحبيب» سعد رفيق الحريري.

 

حكاية الحريري «ما خلصت» بعد عند قلة ستزوره هذه الأيام لإثبات ولاء تحتاجه هي. لكن، عشية الذكرى الـ18 لاغتيال «الرفيق» التي يعود سعد لإحيائها بصمت، تخلع أزقة بيروت عنها ثوباً مشلّعاً من الصور واليافطات القديمة التي سقطت بمرور الوقت، من دون أن تحلّ محلها صور جديدة للزعيم المنكفئ في منفاه الإماراتي. كسر غياب سعد البيارتة مرتين؛ مرة بتخليه عنهم، ومرة لأنه خلّف «فراغاً زعاماتياً»، ما انفكّ يتكرّس بعد عامٍ من تلمّس الطريق ومحاولة البحث عن «قائد حقيقي» لـ «المجتمع السني»، يبدّد خوفه من خسارة مكتسباته في بنية النظام. فلم يجدوا من يرفع في داخلهم منسوب هرمونات السعادة، ويردّدون على مسمعه «بكرا إنت وجاي رح زيّن الريح»، كما فعلوا مع سعد ومن قبله رفيق.

 

داخل مقهى شعبي في شارع البرجاوي، يرتاده شبان «مستقبليون»، يأخذ زلزال تركيا وسوريا حيزاً من الحديث، ليس عن حجم دماره وحسب، إنما لكونه سبباً ألهاهم عن صورة للشيخ سعد كانوا يخططون لرفعها في ساحة الملعب البلدي تزامناً وزيارته الخاطفة. وصلت ارتدادات الطبيعة إلى طريق الجديدة معقل التيار ورافعته، وفرضت على أهلها هماً جديداً. قبلها، فرض الانهيار وطأته، فغاص الجميع في تداعياته الخانقة على حياتهم اليومية. لم يعد محرجاً بالنسبة لأهل المنطقة سؤالهم عن المزاج العام، فيخبرونك أن أحداً «لم يبال بالتحضيرات لاستقبال الحريري، وإذا كانت هذه حال طريق الجديدة فما بالك ببقية مناطق العاصمة». بهذه الصراحة يتحدّث شاب منهمك بتلبية طلبات زبائن المقهى من المشروبات الساخنة.

في كتابه «سيكولوجيا الجماهير»، يقول غوستاف لوبون إن «الجماهير بحاجة إلى من يقودها ويحميها…»، وهي «لا تفكّر عقلانياً دوماً، وعادة ما تكون من دون ذاكرة فلا تحاسب القائد على وعودٍ لم تتحقق». هذه حال جزء من «المستقبليين» لا يزالون يخضعون للتأثير العميق لفكرة أن سعد هو ابن رفيق، فعاش في مشاعرهم على إرث والده. لكن الفارق الأساسي اليوم، مقارنة بما قبل عامٍ مضى، وبالتحديد قبيل إعلان الحريري اعتكافه عن العمل السياسي، أن هذه الفئة تضاءلت عددياً بشكلٍ ملحوظ. وهي تكاد تنحصر بدائرة من المنتسبين إلى «المستقبل» في أبو شاكر وشارع العرب وحيّ الدنا. وجودهم قائم على أنهم «حريريون»، ويشكّل ذلك جزءاً من هويتهم. لذلك رفعوا شعار «لا ما خلصت الحكاية». يقول أحد أبناء حي أبو سهل المتفرّع من الطريق الجديدة: «لم تنته حكاية المستقبل مع اغتيال رفيق ولا مع اعتكاف سعد، وهذه رسالة لكل من يسأل ماذا لديه سعد الحريري في لبنان ليزوره». ولكن هل تعتقدون أن سعد بوابة الحلّ وتنتظرون عودته إلى الحياة السياسية؟ «كلا». باختصار شديد ثابتون هؤلاء في مكانهم، مسجونون بفكرة سعد رفيق الحريري، ويلعنون حظّهم السيئ بسبب «ضعفه» كزعيم.

 

في المقابل، كلما وسّعت الدائرة ستجد شريحة وازنة وآخذة بالازدياد، ركنت الحريري على رفّ طبقات الذاكرة الخلفية، وحلّ في مقدمة رأسها حصار السلطة الذي جعلها كسائر أهل البلد تركض وراء مصدر الرزق، غارقة في البحث عن مخارج للتكيّف وواقعها. قد يكون التعبير الأصدق لسيدة تنتقي أغراضها من عربة على رصيف يؤدي إلى سوق صبرا الذي تقصده لرخص أسعاره: «نسأل عن الدولار وأسعار الخضار وكلفة النقل أكثر من أحاديثنا عن سعد الحريري»، وتستطرد «بالي مش معه، وما منذكره إلا عند السؤال». هذه «الفجاجة» يؤكّدها شاب من آل عيتاني يذهب أبعد من ذلك بالإشارة إلى أن «زينة عيد الحب تملأ شوارع بيروت وتطغى على ذكرى رفيق الحريري نفسه… العالم بدها تعيش».

أفراد المكوّنات الطائفية الأخرى ممن ينظرون إلى أدوارهم انطلاقاً من الطائفة، يجدون في أحزابهم وزعمائهم «متنفساً» كنوع من التعويض على صعيد الجماعة. فزعماؤهم حاضرون في المشهد السياسي، وبهم ومن خلالهم تتكون المعادلة، إلا المكون «السني» وحده من يعاني «الاغتراب في الوطن» على حد تعبير رجل خمسيني يرى أن «أبو بهاء كان رجلاً تليق به الزعامة».

شعور الإحباط المستجدّ تتشاركه الفئة المسكونة بـ«ابن الرفيق» والفئة الأوسع غير المبالية، وكلاهما لا يخفيان الخوف والقلق المحيطين بهم، وفي الوقت نفسه النفور من «المتخاذلين»، بدءاً بالشقيق بهاء وليس انتهاء بفؤاد السنيورة. أما العلاقة مع نجيب ميقاتي فـ«صفر»، لكن «ممنوع المس برمزية الرئاسة الثانية». ويمتد العتب أيضاً إلى خارج الحدود، لأنه «إذا ما أرادت السعودية تضييق الخناق على حزب الله، فلماذا لم تدعم السنّة عن طريق دار الفتوى مالياً وعينياً؟». كما يأخذ كثر على «دول الخليج عامة تخليها عن المجتمع السني في الأزمة الاقتصادية المتفاقمة».

 

قيل إن تشتّت «الصفّ السني» سيصبّ في مصلحة سعد الحريري، ومن بوابته سيعود إلى المسرح السياسي بضوء أخضر سعودي – إماراتي. لكن، كما يقول الكاتب في علم القيادة جون ماكسويل، «الناس يصفحون عن الأخطاء العابرة إذا كانوا يرون أنك ما زلت تنمو كقائد، ولن يثقوا أبداً بمن لديه عيوب في الشخصية». وناس الحريري، بتعبيراتهم البسيطة، قالوا في سعد إن «شخصيته ضعيفة ومن الأفضل ألا يعود فهو غير قادر على مصارعة بقية الزعماء»، و«ضحك عليه جميع من حوله»، «مشكلته قلبه الطيب»… الخ. على رغم ذلك، لا يزال هذا الجمهور يبحث في لا وعيه عن رمز مُلهم يفجّر به ثقته بمكامن قوّته. وبما أن لا جماهير من دون قائد ولا قائد من دون جماهير، وبما أن جمهور الحريري على امتداد لبنان من الشمال إلى البقاع الغربي والإقليم وبيروت تضعضع، يصح السؤال: هل لا يزال الحريري قائداً؟ ربما. لكن ليس لأن الزعامة تحيا بالحب وحده، وليس لأن «القائد الضحية» يكفيه التعاطف الصادق وينقذه، بل، ببساطة شديدة، لأنه «من قلة الأبطال» سيبقى الحريري «بطلاً»… حتى إشعار آخر.