إحدى أهم المفارقات السياسية في المشهد اللبناني، تبقى علاقة حزب الله بالرئيس سعد الحريري، التي ظهرت في الآونة الأخيرة وكأنها بمتانة علاقته برئيس الجمهورية ميشال عون. هناك مسافة شاسعة بين أن يكون الرئيس المكلف حاجة سعودية في زمن التقاطعات الإقليمية على الساحة اللبنانية، أو أن يكون حاجة لحزب الله، في عزّ الاختلافات والمصالحات والأحلاف الإقليمية والانتظارات الدولية. بهذا المعنى، يصف سياسي مطّلع الحريري اليوم بأنه أصبح أشبه بـ«وديعة» حزب الله في المقلب الآخر، وليس العكس. مهما تكن الظروف التي تحتّم على الحريري البقاء في منصبه رئيساً مكلفاً، مالية أو سياسية ــــ طائفية، فإنّ ما جرى منذ تكليفه قبل شهرين ونصف شهر، من ضغوط سياسية وعمليات ابتزاز متبادلة بينه وبين العهد، وتلويح بدفعه الى الاعتذار، مقابل شروط وشروط مضادة، يظهر بوضوح أن الحريري لا يزال حتى الآن يغلّب، من ضمن مجموعة عوامل تتعلق بمصالحه، مصلحة تهدئة الشارعين السني والشيعي، على أي اعتبار آخر يتعلق بترتيب الوضع اللبناني برمّته. صحيح أن الإيجابيات تراكمت بينهما، ولا سيما بعد قرار المحكمة الدولية في آب الفائت، حين طوى الحريري صفحة اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري لمصلحة استئناف تطبيع العلاقة السياسية مع الحزب، إلا أنه منذ تكليفه وهو يضاعف أوراق اعتماده لدى الطرف الذي لم يسمّه. من هنا، يمكن استعادة ردود فعل الحريري نفسه وتياره حول ما قاله الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في مقابتله التلفزيونية الأخيرة عن طرح سعودي على واشنطن لاغتياله، وتحديداً من وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان. لو صدر هذا الكلام في توقيت مختلف، لكان أشعل تيار المستقبل فأنزل المناصرين الى الشارع، ولردّ الحريري بنفسه على كل اتهام يطال الرياض. ما حصل هو أن الحريري تصرّف وكأنه لم يسمع هذا الكلام، الذي مرّ مرور الكرام، حتى إن طلب المحقق العدلي القاضي فادي صوان الاستماع الى رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب، استدعى تحركاً سنياً وحريرياً مباشراً أعلى شأناً مما كان يُعتبر «مسّاً بالمملكة». الأمر نفسه تكرر مع تصريحات مسؤولين إيرانيين حول لبنان ودور الحزب في مسألة الصواريخ، واحتفالات ذكرى اغتيال قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني، إذ غابت احتفاليات الردود المباشرة والعالية السقف لمصلحة تغريدات وتصريحات متفرقة مقتضبة من باب رفع العتب. في حين رفعت قيادات من 14 آذار وقوى حزبية مسيحية صوتها من خلال حملات سياسية وإعلامية حادة مستنكرة التصريحات ورفع تمثال سليماني، مستخدمة عبارات شديدة اللهجة.
«المستقبل» لا يثير أيّ حساسية ضد حزب الله، لكنّه لا يوفّر مناسبة للردّ على حلفائه السابقين والحاليين
اللافت في أداء المستقبل، أنه في اللحظة ذاتها التي ابتعد فيها عن إثارة الحساسيات مع حزب الله، لا يوفر مناسبة للرد على حلفائه السابقين والحاليين، من الحزب التقدمي الاشتراكي الى القوات اللبنانية عند أي مناسبة أو انتقاد. وفي الوقت ذاته، يبرمج يومياً حملة ضد التيار الوطني الحر على خلفية دوره في تأليف الحكومة ووضع العراقيل أمامه. وكذلك يحصر، ومعه رؤساء الحكومات السابقون تحركهم بالجملة والمفرق ضد رئيس الجمهورية، محمّلينه مسؤولية خرق الدستور في موضوع تأليف الحكومة وفي نقضه التفاهمات وتعدّيه على صلاحيات رئاسة الحكومة لمصلحة صلاحيات رئاسة الجمهورية. وهذا يتحوّل في الخلاف بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، إلى الطبق الأساسي، في مقاربة الواقع الحكومي المتعثّر، تزامناً مع ميل واضح الى عدم استفزاز الحزب في مشكلة التعثر الحكومي وغيره.
لكن العبرة لا تبقى في موقف الحريري الذي أصبح نهجاً قائماً بذاته، وإنما في موقف الحزب منه. فدور الحريري المزمن بالنسبة إليه، أن يكون صلة وصل مع الخارج الأوروبي والأميركي وأيضاً الخليجي، كما حصل مع مراعاة الحزب المبادرة الفرنسية ودور باريس في تنشيط عجلة تسمية الحريري، حتى يحين موعد أي ترتيب يتعلق بالمنطقة ولبنان من ضمنها. وأداء الحريري منذ ما قبل تكليفه، يعطي للحزب هذا الهامش الكبير في التعامل معه على أنه الأقرب إليه مما هو أقرب الى غيره. وهذا يبقيه تحت جناحيه، الى أن تصبح الحاجة الى ترتيبات إقليمية أكثر إلحاحاً، فيقصيه أو يبقيه بحسب المقتضيات. لذا، يمسك الحزب العصا من نصفها، فلا يسمح للعهد بتخطّي الخطوط الحمر، مهما صعّد التيار الوطني الحر من لهجته، (وهذا يبقي الحريري أكثر قرباً منه) ويخفف الضغط على الحريري فيبقي له مساحة من الحرية لتفجير توتره وتوتر مناصريه تجاه التيار والعهد، ويصرّ على تكرار لازمة دعوته الى تحريك اتصالاته، في إشارة الى استمرار التمسك به. ولا يضيره في المقابل المشهد الداخلي حين تعصف الخلافات بين بكركي وبعبدا وبيت الوسط حول تأليف الحكومة، لأن كل هذه العناصر تزيد من رصيد الحاجة إليه عندما يحين وقت الاستحقاق الفعلي. ولأن انتظار الترتيبات الإقليمية والدولية يبدو طويلاً، فإن الحزب يراعي أكثر فأكثر خصوصية وضعية الحريري، لكن في شكل مغاير لمراحل سابقة. القصة أصبحت معكوسة ولم يعد الحريري رجل السعودية في لبنان، بل أصبح أقرب ما يكون إلى رجل الحزب في الخليج.