مهمّة جداً مبادرة الرئيس سعد الحريري، أمس، التي وصفها الدكتور سمير جعجع بأنها «أنقذت الموقف»… وهي بالفعل أنقذت لبنان من أزمة كانت مرشحة لتزيد الأزمة أزمات! وهذا الموقف المتقدم لرئيس الحكومة الأسبق يثبت مرة جديدة أنّ لبنان لا يقوم على العناد ولا على التشبث بالمواقف حتى وإنْ على صواب.
لقد حلّها الشيخ سعد بتعهده بإقرار قانون إستعادة الجنسية كما ورد من اللجان، ومن دون إدخال تعديلات عليه. كما تعهد بعدم حضور كتلة المستقبل أي جلسة نيابية تشريعية لا يكون مشروع قانون الإنتخاب على رأس جدول أعمالها.
وبالتالي بدا الحريري الأكثر تفهماً للحال المسيحية التي لامست حد اليأس… وبتصرفه هذا أوقف «المكاسرة» التي كانت تنذر بمصير مجهول.
وفي تقديرنا أنه مهم جداً تفهم هواجس المسيحيين التي إنعكست أزمات وطنية متلاحقة تبدو في كل موقف وتصرف ووضع. ويكفي تنقل بسيط في الشارع ليدرك اللبناني والمقيم في لبنان الى أي مدى تنعكس الأزمة السياسية على الواقع المعيوش. من الإنفلات غير المسبوق في فوضى السير، الى «التعصيب» في الناس، حتى ليكاد الجواب على التحية أن يكون شتيمة! وأما حال الأسواق فحدّث ولا حرج!
بلد فالت. صحيح أن الأزمة كبيرة، وان إنعكاسها على الناس بالغ الخطورة. ولكن أخطر ما فيها فقدان الأمل من أي تسوية حقيقية توصل الى نتيجة ملموسة من شأنها أن تضع حداً لهذا التخبُّط المروّع في لبنان.
لقد ثبت بالبرهان وباليقين، أن البلد «مش ماشي». وأنّ عدم المشي أوصله الى قعر قائمة بلدان المنطقة والعالم في كل شيء تقريباً، وأنّ الأزمات المتناسلات مآزق مرشحة لأن تتراكم فتتفاقم.
والأسباب عديدة.
أولها: انّ الطبقة التي توالت على «المسؤولية» (؟) في هذا الوطن تنقصها أمور كثيرة ليست الكفاءة بأهمها، بل فهم ووعي وإدراك أهمية هذا الوطن، ودوره، وعظمة تركيبته الكيانية القائمة على فلسفة المساواة بين الأطياف كلها. فيما التمييز العنصري لايزال قائماً (فعلياً على الأرض) في الولايات المتحدة الأميركية ذاتها.
ثانيها: انّ التعديلات الدستورية التي أُجريت في مطلع عقد التسعينات من القرن العشرين الماضي إنطلقت من حسابات فئوية وكان الهدف الأول منها إضعاف المسيحيين…. إلاّ أنّ الممارسة (أو سوء الممارسة والتطبيق) لم تكتف بإضعاف الدور بل قضت عليه نهائياً.
ثالثهما: إن المسيحيين الذين تهافتوا على الحكم في عهد الوصاية السورية أظهروا (مثل معظم أدوات الوصاية واتباعها في حينه) شهية جشعة الى السلطة ولو على حساب كل شيء… نقول «كل شيء» ونعنيها حرفياً. فإذا طبقة متهالكة منحنية أمام إرادة الوصاية، وإذا هي يسيل لعابها وراء المناصب والمغانم… ويوم يُكتب تاريخ هذه المرحلة (التي لا يزال الكثير من رموزها حاضراً وفيهم ندرة من أصحاب النفوس الأبية والحرص على الكرامة الذاتية والوطنية) نقول: يوم يكتب تاريخ هذه المرحلة فإن جبين كثيرين سيندى خجلاً!
واستطراداً لقد كان مباحاً البيع والشراء في كل شيء من الشخصي الى الوطني…
ورحلت الوصاية قبل عشر سنوات، إلاّ أنّ النفسية إستمرت، بل وتفاقمت. كانت الوصاية تضبطهم بالعصا الغليظة والكلام الذي كثيراً ما يصل الى الشتيمة، أما اليوم فلا ضابط ولا مَن يضبطون. وفي غمرة هذا كله فرغت الساحة من الدور المسيحي ومن الحضور المسيحي القيادي (غياب ميشال عون وريمون إده وسمير جعجع وأمين الجميل عن الساحة للأسباب المعروفة لكل منهم) والإصرار على شرذمة صفوف المسيحيين: حل حزب القوات اللبنانية، إضطهاد التيار الوطني الحر، شرذمة صفوف الكتائب، الغاء الكتلة الوطنية، وتقويض الوطنيين الأحرار!..
فكان أن سقط الدور المسيحي كلياً وقام هذا اللبنان الهجين الذي ليس له أي رابط أو صلة بلبنان الذي كان منارة تشع على المنطقة: فأضمحلت الثقافة العامة، وشوهت الديموقراطية، وقامت الأحادية الشيعية والأحادية السنيّة، وسيطر «المجتمع الإستهلاكي» على مجتمع الطبقة الوسطى والبورجوازية الوطنية. وصار الإنسان يُقاس بجيبه وليس بعقله وفكره وإبداعه… وانتشر الفطر في كل حقل ومكان: نبت الأثرياء كالفطر. نبتت الجامعات كالفطر. نبت «الدكاترة» الأميون كالفطر في مختلف الإختصاصات.
باختصار: سقط الدور المسيحي، فسقط لبنان. نقولها باقتناع.
وما أزمة «الميثاقية» سوى أحد أوجه هذا السقوط.