IMLebanon

سعد الحريري… حافظ الأمانة

في ذكرى استشهاد رفيق الحريري ورفاقه، كان الرئيس سعد الحريري وفياً لما مثله الرجل. كان كعادته ملتزماً الثوابت، على رأسها الانتماء للدولة ولمبدأ يقوم على أن لا سلاح آخر خارج السلاح الشرعي في يد الجيش اللبناني والقوى الأمنية اللبنانية. لم يكن سعد الحريري مرّة أخرى بعيداً عن التسويات التي تصبّ في مصلحة الاستقرار. كان قبل أيّ شيء آخر ابن رفيق الحريري والحريص على تراثه والمبادئ التي أخلص لها من ألفها الى يائها بعيداً عن المزايدات والمزايدين والطارئين من هنا وهناك وهنالك.

يعرف سعد الحريري قبل غيره، والأكيد أكثر من غيره، أنّه لم يعد سرّاً من نفّذ الجريمة، ومن تواطأ مع المنفذين، وما هو السياق الذي تحكّم بها. هذا لم يعد سرّاً. السرّ في أنّ رفيق الحريري لا يزال حيّاً في ذاكرة اللبنانيين، كما لو أنّ الجريمة حصلت أمس بالذات وليس قبل كلّ هذه السنوات.

طوال اثني عشر عاماً، جرت المحاولة تلو الأخرى من أجل القضاء على ما بناه رفيق الحريري في وقت قياسي. تكمن مشكلة الذين قاموا وما زالوا يقومون بهذه المحاولات في أنّهم لا يدركون مدى عمق الجذور التي يمتلكها مشروع رفيق الحريري. هذا المشروع الذي يتلخص بعبارة بناء الإنسان والحجر في آن.

أصبح رفيق الحريري رئيساً لمجلس الوزراء في العام 1992. ما يفوت كثيرين أن عملية إعادة بناء لبنان لم تبدأ بتشكيل الحكومة الحريرية الأولى. بدأت العملية منذ أصبح رفيق الحريري قادراً على مساعدة لبنان واللبنانيين من ماله الخاص الذي كسبه بعرق جبينه في المملكة العربية السعودية.

من تعرّف على رفيق الحريري مطلع تسعينات القرن الماضي، قبل أن يصبح رئيساً لمجلس الوزراء، يُدرك كم تطوّر الشخص في غضون خمسة عشر عاماً. كان من الزعماء القلائل الذين لا يستحون من قول عبارة «لا أعرف» عندما كان أمام سؤال لا يمتلك جواباً عنه أو قضية غريبة عنه. لكنّه كان في المقابل يعرف من هو الشخص الأفضل للإجابة عن هذا السؤال أو للتعاطي مع هذه القضية بشكل فعّال.

لعلّ أكثر ما يلفت في رفيق الحريري أنّه كان يعرف كيف يبني وكيف يؤسس. امتلك معرفة عميقة بلبنان واللبنانيين. كان يعرف أهمّية الجامعات والمدارس والمستشفيات والمصارف والفنادق والمطاعم وكلّ المرافق السياحية في لبنان. استثمر فيهما وفي الإنسان اللبناني. لذلك علّم عشرات آلاف اللبنانيين على حسابه. عرف معنى الجامعة الأميركية في بيروت ومستشفاها وأهمّية الجامعة اليسوعية والجامعة العربية والجامعة الوطنية (الجامعة اللبنانية). لولا رفيق الحريري، لكان ممكناً أن تقفل الجامعة الأميركية أبوابها، وأن يهاجر أساتذتها وجميع الأطباء الذين كانوا يعملون في مستشفاها. حمى رفيق الحريري الجامعة الأميركية والجامعات الأخرى التي خرّجت شباناً لبنانيين وآخرين من العرب برعوا في كلّ الميادين. أحد خريجي الجامعة الأميركية تبرّع أخيراً للجامعة وكلية الهندسة فيها بمبلغ كبير. اسمه مارون سمعان وهو شاب لبناني من الجنوب، أيضاً، تخرّج من كلّية الهندسة. أراد بكل بساطة أن يكون وفيّاً لمن قاده الى النجاح وأسّس لهذا النجاح ولهذه الثروة. أراد أن يكون وفيّاً للبنان وللجامعة التي قدّمت له الكثير. صار التبرّع للجامعات بمثابة مدرسة وطنية بحدّ ذاتها ساهم في تعميمها رفيق الحريري وآخرون سبقوه في ذلك. إنّهم أشخاص يمتلكون الكثير من النبل لا مجال لذكر كلّ أسمائهم. لكنّ أياً منهم لم يقدّم ما قدّمه الحريري الأب في ظروف في غاية الصعوبة والدقّة مرّ فيها لبنان في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته…

حمى رفيق الحريري كلّ المؤسسات الوطنية. كان يعرف معنى دعم الجيش وقوى الأمن، ومعنى أن تجد جريدة «النهار» ورقاً كي تستمرّ في الصدور، ومعنى أن يبقى للبنان شركة طيران خاصة به اسمها «الميدل ايست».

هذا غيض من فيض ما عمله رفيق الحريري، صاحب العلاقات العربية والدولية الواسعة، الذي أعاد لبنان الى خريطة الشرق الأوسط والعالم.

كانت لرفيق الحريري جذور عميقة في لبنان. غرس هذه الجذور الواحد تلو الآخر. كان دؤوباً. كان عصامياً. كان يعرف أن الرهان على لبنان في محله. لذلك، بعد اثني عشر عاماً على اغتياله لا يزال رفيق الحريري حاضراً أكثر من أي وقت. يعرف كلّ لبناني شريف ماذا فعل رفيق الحريري للبنان. يعرف قبل أيّ شيء آخر أنّه لولا رفيق الحريري، لكانت بيروت مدينة مقسّمة ووسطها مكان تسرح فيه وتمرح الكلاب الشاردة.

بفضل رفيق الحريري، انتصرت ثقافة الحياة على ثقافة الموت. هذا معنى إعادة بناء بيروت. غرس جذوراً لثقافة الحياة. هذه الجذور العميقة هي سرّ العلاقة بين الرجل واللبنانيين. هذه الجذور جعلت اللبنانيين ينتفضون في الرابع عشر من آذار 2005 ويخرجون بصدورهم العارية القوات السورية من لبنان بعد احتلال استمر نحو ثلاثة عقود.

المؤسف أنّ لا شيء يعوّض خسارة رفيق الحريري الذي يعرف كلّ لبناني من اغتاله، ولماذا اغتيل بعد أقلّ من سنتين من تسليم الإدارة الأميركية العراق الى إيران وبدء الانطلاقة الجديدة للمشروع التوسّعي الإيراني. سعد الحريري على رأس الذين يعرفون. كان خطابه الذي تمسّك فيه بكل الثوابت دليلاً على عمق المعرفة. إنّه دليل على القدرة على التوفيق بين الثوابت وما تفرضه الظروف، من دون أن يعني ذلك في ايّ وقت أي تنازل عن كلّ ما يمس لبنان وسيادته ومؤسسات الدولة التي يعمل «حزب الله» على تدميرها الواحدة تلو الأخرى. فسعد الحريري يبقى في نهاية المطاف المقاوم الحقيقي الذي يدافع عن اللبنانيين والسوريين الذين يواجهون حرباً ظالمة مفروضة عليهم. يبقى سعد الحريري قبل كل شيء ابن رفيق الحريري والحافظ الأمين للأمانة الغالية المودعة لديه.