إن عدم انتخاب رئيس للجمهورية بات يهدّد الانتظام السياسي العام والسلم الأهلي الهشّ. ومرة أخرى لا نجد سوى سعد الحريري منفرداً يتصدى لذلك الانشداد السياسي والطائفي بكل جرأة، فيقدم على التنازل السياسي من أجل التوازن الوطني. ولا أعتقد أننا نحتاج الى التذكير بمسلسل التنازلات خلال مسيرة سعد الحريري منذ تحمّله أعباء جريمة اغتيال والده الشهيد.
بدأ سعد الحريري مسيرته بالحفاظ على الصداقات التي أسّس لها والده بالرغم من حدّة الاصطفاف عقب الاغتيال. فكان لقاؤه مع السيد نصرالله والرئيس بري، وكان لذلك الاتجاه الأثر الكبير في تأمين الاستقرار والانسياب العام وإرباك الذين كانوا يريدون الاستمرار بالاغتيال السياسي. وأيضاً تجرّأ على تسمية نجيب ميقاتي رئيساً للوزراء، خلافاً لإرادة من كان يدير البلاد عشية الاغتيال.
جعل سعد الحريري من قريطم مساحة للوحدة الوطنية. وكان وجمهور 14 آذار على رأس الذين استقبلوا عودة العماد عون من منفاه. ثم أخذ الجميع الى التحالف الرباعي الذي كان خشبة الخلاص الوحيدة لتكوين سلطة متوازنة تعيد الاستقرار السياسي. ولا ننسى أكلاف سعادة سعد الحريري وهو يرفع شارة النصر بصدور قانون العفو عن سمير جعجع الذي اعتقل 11 عاماً رغم بطلان الادعاء.
تنازل سعد الحريري عن العديد من المقاعد النيابية في أكثر من مكان، في البقاع والشمال وبيروت، من أجل تمثيل كل مكوّنات ١٤ آذار. وبعد الفوز بالانتخابات اختار الحريري فؤاد السنيورة رئيساً للحكومة. ثم جاء اتفاق الرياض الذي يعبّر عن رغبته بطمأنة مكوّن لبناني كبير. ثمّ تحمّل مسؤولية مواجهة تحدّيات نهر البارد بعيداً عن الحسابات المذهبية. ثم تحمّل تبعات 7 أيّار وتنازلات الدوحة.
فاز في انتخابات ٢٠٠٩ بأكثرية نيابية. وأصرّ عشية اعلان النتائج على الشراكة الوطنية. ثمّ ذهب الى ما عُرف بتفاهم الحريري – نصرالله، بعد تكليفه برئاسة الحكومة مرّتين. وشكّل حكومة وحدة وطنية. وتنازل بالقبول بما عُرف بالـ«س س». ذهب إلى دمشق بكلّ جرأة من أجل لبنان، ورفض عودة الإملاءات على لبنان واللبنانيّين، فكان العزل السياسي.
استوعب سعد الحريري تداعيات حكومة الأمر الواقع، فذهب الى دار الافتاء ليضع الثوابت الوطنية، واصطحب بسيارته الى دارته نجيب ميقاتي المكلّف بتشكيل حكومة العزل السياسي آنذاك، متجاوزاً انشقاقاً وطنياً كبيراً.
تحمّل الحريري نتائج وتداعيات النزاع السوري وأثره على لبنان، واستوعب عداء اللجوء السوري الشعبي لحكومة النأي بالنفس والتي استقالت في لحظة كان يجب أن تَتحَمّل فيها المسؤولية.
احتضن سعد الحريري تكليف تمّام سلام بتشكيل الحكومة التي تأخّرت ١١ شهراً، الى أن وقف في لاهاي عشية انطلاق اعمال المحكمة الدولية ليعلن سياسة اليد الممدودة رغم الاعتراضات. وتحمّل تداعيات النزاع المسلح في التبانة وبعل محسن وعبرا. ثمّ كانت عودته المفاجئة الى بيروت لاحتواء أحداث عرسال والتأكيد على دور الجيش وتسليحه. وكان قبل أن ندخل في الشغور الرئاسي قد بادر الى الانفتاح على الأفرقاء، خاصّة ميشال عون. ثم كان القرار بالحوار مع حزب الله في عين التينة من اجل الاستقرار.
ثمّ كان التنازل الاخير من أجل سلامة لبنان المالية والاقتصادية وصيانة الوحدة الوطنية، وذلك في جلسة تشريع الضرورة التي أقرّت قانون استعادة الجنسية والقرارات المالية. ومرّة أخرى يقدم الحريري بجرأة على ملء الشغور الرئاسي الذي بات يهدّد الدولة والكيان والسلم الأهلي، متجاوزاً التعطيل على قاعدة «إما أنا أو من بعدي الطوفان»، مدركاً خطورة التطورات في المنطقة والعالم وأيضاً لبنان، والتي قد تذهب بمكتسبات لبنان الاستقلال ولبنان الطائف ولبنان ثورة الأرز.. وذلك بتنازله مرّة أخرى من أجل انتخاب رئيس للبلاد متقبّلاً الخسارة المفترضة مقابل أن يربح لبنان.
تلك هي مدرسة «ما حدا أكبر من بلدو» القائمة على التنازل السياسي من أجل التوازن الوطني.