«أنا مع سعد الحريري. وأنت؟». بلا أيّ مقدّمات سأل أحد المحتجّين صحافياً بعدما اقترب منه أمام قصر الرئيس نجيب ميقاتي في ميناء طرابلس، مساء يوم الخميس؛ لم يملك ذلك الصحافي إلا أن يقول، «وأنا أيضاً»، بعدما لاحظ أن جزءاً كبيراً من المحتجّين الذي خرجوا إلى الشوارع عقب إفطار ذلك اليوم يناصرون التيّار الأزرق، من خلال الهتافات التي ردّدوها والشعارات التي رفعوها، ومحاولتهم اقتحام قصر الرئيس ميقاتي من بوابته الرئيسية. الجيش منعهم من ذلك، وأطلق النار في الهواء لتفريقهم.
تلك الحادثة لم تكن الاولى من نوعها، لجهة وجود مناصري تيار المستقبل في شوارع مدينة طرابلس و«انضمامهم» إلى صفوف المحتجّين الناقمين على الحكومة والسلطة نتيجة تردي أوضاعهم المعيشية. لكن هذه الحادثة حملت مفارقتين: الأولى أنّ تجمهر مناصري التيار الأزرق وافتعالهم الشغب جاء بعد ساعات قليلة من تصريح للرئيس سعد الحريري من منزله في وسط بيروت، نفى فيه الاتهامات التي وُجّهت لجمهور تيار المستقبل بأنه يقف وراء أعمال العنف في طرابلس، إذ قال: «هذا ليس جمهوري، فجمهوري لا يكسر ولا يقتل. جمهور رفيق الحريري ومحبو رفيق الحريري لم يؤذوا أحداً في حياتهم. جمهور رفيق الحريري وسعد الحريري يبني، ولا يدمّر». أمّا المفارقة الثانية فهي أن ميقاتي، الذي هوجم قصره من قبل مناصري تيار المستقبل، كان حاضراً ذلك اليوم في اجتماع رؤساء الحكومات السابقين في منزل الحريري، وأصدروا بياناً مشتركاً تعبيراً عن تضامنهم في هذه المرحلة.
الاستياء في صفوف أنصار ميقاتي من تهجّم محتجين زرق على قصر “زعيمهم” لم يكن خافياً، وأنّ هؤلاء وغيرهم «يبتزوننا»، بحسب قول بعضهم، لكنهم آثروا الصمت نزولاً عند طلب ميقاتي، الذي لا يبدو راغباً في جعل علاقته بالحريري سيئة، وبعدما كان اتصل قبل ذلك بيومين بقائد الجيش جوزف عون، مطّلعاً منه على الإجراءات التي يتخذها الجيش لضبط الأوضاع في طرابلس.
غير أنّ ذلك لا يعني أنّ من يتحرّكون في الشّارع ويقودون الجماهير الغاضبة من استفحال الجوع والفقر والعوز بينها، ويركبون موجتهم، هم من مناصري الحريري حصراً؛ فالمدينة التي يعتبر الوزير السابق رشيد درباس أنها «يتيمة منذ اغتيال الرئيس رشيد كرامي»، وأن ضعف قياداتها وتراجعهم وانقسامهم على أنفسهم وعلى طرابلس، أفسح في المجال أمام قوى سياسية من خارج المدينة للحضور والشغل فيها بارتياح، حتى لا يكاد يوجد طرف لبناني إلا و«بلّ يده فيها»، بعدما تحوّلت المدينة في السنوات الأخيرة إلى “صندوق بريد” يحفل بشتّى أنواع الرسائل العنيفة والمتفجّرة.
في الأوساط السياسية الطرابلسية شبه إجماع على أنّ عودة الحريري الأخيرة من باريس إلى لبنان جاءت نتيجة “نصيحة” تلقّاها، دعته إلى العودة واستلحاق نفسه قبل فوات الأوان، وخروج الأمر من يده، بعدما وصلته معلومات عن أن جمهوره بدأ يتسرّب باتجاه أحزاب وتيارات سياسية أخرى. يُضاف إلى ما سبق أن شقيقه بهاء بدأ يزيد من منسوب حركته السياسية واستمالة شخصيات، في خطوة لم تفسّر إلا على أنها مؤشر على نيّة الشقيق الأكبر منافسة شقيقه، وعلى تباين كبير في الرؤى بينهما.
مصادر عديدة تؤكد أن حركة بهاء الحريري في طرابلس تتم بالتنسيق مع الوزير السابق أشرف ريفي، وأنّ ضابطاً متقاعداً في قوى الأمن الداخلي، مقرّباً من ريفي، زار بهاء قبل مدّة لتنسيق المواقف. كما أن محامياً مقرّباً من ريفي ومن هيئة العلماء المسلمين، يعمل في العلن دعماً لبهاء، ويتعاون معه مناصرون سابقون لتيار المستقبل ابتعدوا عنه في الآونة الأخيرة، إما لاستيائهم من سياسة الرئيس الحريري والقيادة الحالية للتيار، أو بسبب توقف حنفية المساعدات عنهم. وعندما سئل ريفي قبل أيام عن علاقته بالابن الأكبر للرئيس رفيق الحريري، أجاب: «بهاء عين وسعد عين».
خارج هذه الدائرة، يلفت حضور حزب سبعة على الأرض في طرابلس أنظار كثيرين. لديه أسماء معروفة لدى الجهات السياسية والأمنية، تقوم بتمويل مجموعات في الشارع الطرابلسي، إلى جانب حضور للقوات اللبنانية.
الأمر لا يتوقف عند هذا الحدّ. فالمدينة تحفل بمجموعات محسوبة على الحزب التقدمي الاشتراكي، الذي يملك حضوراَ تاريخياً فيها، إضافة إلى الحزب الشيوعي اللبناني ويساريين يتقدمون صفوف المحتجين في الشارع.
وإلى هؤلاء، فإنّ حزب الله لديه أيضاً مجموعات مؤيدة له، لكن لم تثبت مشاركتهم في أي تحرّك احتجاجي، رغم اتهامات جهات مناهضة للحزب بذلك، عدا عمّا أشيع عن أن مجموعات قدمت من سوريا تشارك في احتجاجات طرابلس، سرعان ما تبين أنها شائعات لا أساس لها، وهي ذات أغراض سياسية بحتة.
الأجهزة الأمنية تحرّك مجموعات تعود وتصفها بـ«المندسة»
أمّا الإسلاميون، فما هو مؤكد حتى الآن أنّهم يكتفون بمراقبة ما يجري من غير أن تظهر أي علامات على أنهم شاركوا المحتجّين في تحركاتهم، لا بل إن بعضهم يرفض الاحتجاج ويصفه بـ«أعمال الشغب التي تتعرّض للأملاك العامّة والخاصة»، معتبرين ذلك «حراماً ولا يجوز شرعاً»، بحسب قول أحدهم. يضيف المصدر أن «الإسلاميين يرفضون المشاركة في احتجاجات كهذه أو أن تحسب عليهم»، قبل أن يشير إلى أنه «إذا شارك الإسلاميون في الاحتجاجات، فعندئذ ستكون الأوضاع والتطورات قد أصبحت في مكان آخر».
دعم أطراف داخليين لقوى محلية في طرابلس هو أمر طبيعي ومعلن. وإضافة إليه، تؤكد معلومات أن سفارات دول عربية وأجنبية تمدّ شخصيات وفاعليات بالتمويل اللازم، وهو ليس كبيراً لأن عدّة الشغل في عاصمة الشمال غير مكلفة، ولا تحتاج إلى الكثير من المال بسبب الفقر وتفشي البطالة وتوافر الأرضية. وإذا كانت سفارات السعودية والإمارات وقطر وأميركا تحديداً متهمة بذلك، فإن دخول السفارة التركية على الخط جذب الانتباه؛ إذ تؤكد مصادر وجود تمويل تركي، يتولاه شخص معروف في طرابلس، برز بصورة خاصة منذ اندلاع شرارة الحراك الشعبي الذي انطلق في 17 تشرين الأول الماضي.
غير أن “اللعب” على الساحة الطرابلسية، أمنياً واحتجاجياً وسياسياً، يمتد إلى الأجهزة الأمنية، التي ليس خافياً أن لكل جهاز منها “جماعته” في الشارع، وأن عيون مخبريه وآذانهم تتوزع في أرجاء المدينة وقطاعاتها كافة. وهذه الأجهزة متهمة، وفق مصادر سياسية، بشكل أو بآخر، وبنسب متفاوتة، بأنها «تقف وراء تحركات قسم من الذين تعود هذه الأجهزة وتصفهم بـ”المندسين”».