لم تكن الزيارات العربية الأخيرة للبنان الهادفة الى الدفع في اتجاه تأليف حكومة، الأولى في إطار حضّ الأفرقاء على التوافق والتأليف منعاً لانهيارات أكبر في لبنان، كذلك ليست اليد الخارجية الوحيدة الممدودة للمساعدة، إلّا أنّ هذه الجولات والاتصالات كلّها تبقى في خانة الدعم ولا ترقى الى مستوى مبادرات عملية فعلية تُطرح على المعنيين. وتبقى المبادرة الفرنسية الوحيدة المعلنة على صعيد التأليف، وهي «حكومة مهمة»، الى جانب الأفكار التي يطرحها رئيس مجلس النواب نبيه بري والتي اصطدمت عند كلّ مبادرة له بـ»الثلث المعطّل». أفكار بري المنطلقة من روح المبادرة الفرنسية لقيت قبولاً فرنسياً، وكذلك تأييداً عربياً بحسب ما أعلن الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية السفير حسام زكي. والمعروف أنّ «مبادرة» بري الأخيرة قائمة على تسوية ترتكز على توسيع الحكومة ولا تحوي ثلثاً معطّلاً لأي فريق، فضلاً عن مخرج لعقدة وزارة الداخلية.
في هذا الإطار، سبق أن أكدت مصادر عاملة على خط التأليف، أنّ الرئيس المكلف تأليف الحكومة سعد الحريري قبِل بطرح بري لجهة توسيع الحكومة، في المقابل دأبت مصادر «بيت الوسط» على تأكيد ثلاثة مبادئ لحكومة لن يتراجع عنها الحريري، وهي: حكومة من 18 وزيراً، تضمّ اختصاصيين غير حزبيين، ولا ثلث معطّلا فيها. وفي حين ظلّت مبادرة بري غير معلنة، ولم يبدِ أي من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أو الحريري تراجعاً واضحاً عن شروطه الحكومية وإلّا كانت الحكومة أبصرت النور، برز أمس الأوّل تصريح زكي من «بيت الوسط» بعد لقائه الحريري، حيث قال: «أعتقد أن لدى الرئيس الحريري فكرة في أنّ الطرح الذي خرج من عند الرئيس بري هو فكرة مقبولة الى حد كبير».
فهل تخلّى الحريري عن تمسُّكه بحكومة الـ18؟ تجيب مصادر نيابية في تيار «المستقبل»: «الأفكار لدى الرئيس بري لم تُترجم مبادرة واضحة أعلنها، وعندما يصرّ على أن تبقى في إطار الأفكار، فهذا يعني أنّه «يحسب خط الرجعة» بالعناوين التي وضعها». وتشير الى بيان صادر عن حركة «أمل» بالتزامن مع الحديث عن مبادرة بري، أكدت فيه «حكومة الاختصاصيين غير الحزبيين بلا ثلث معطّل»، ما يتماهى مع طرح الحريري. وترى مصادر «المستقبل» أنّ «عدم إعلان بري مبادرته مردّه الى أنّه غير متأكد من موافقة عون ورئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل على هذه المستلزمات لنجاح أي حكومة».
في هذا الإطار، تشير المصادر نفسها الى أنّ «هذه المستلزمات أكدها وزير خارجية مصر خلال زيارته للبنان قادماً من فرنسا، وقالها بإسم المجتمع العربي وضمن المبادرة الفرنسية، كذلك ليست دول الخليج، وتحديداً السعودية بعيدة من هذا الطرح، فمن المعروف أنّ هناك تواصلاً مصرياً ـ سعودياً حول هذا الموضوع، فضلاً عن أنّ هذه مبادرة فرنسا أساساً وعنوانها. وبالتالي يصبح السؤال: هل يرضى فريق عون ـ باسيل أن تؤلَّف حكومة لا يحظى فيها بالثلث المعطّل لا مباشرةً ولا مواربةً؟». وترى أنّ «الذي يظهر حتى الآن أنّ هذا الفريق ما زال مصراً على ثلث التعطيل، لأنّه يريد أن يستحوذ على قرار الحكومة الآن ولاحقاً تحسباً لما بعد انتهاء ولاية عون الى الاستحقاق الرئاسي المقبل».
وفي هذا السياق، تجزم مصادر «المستقبل» أنّ اعتبار عون أنّ الحريري لا يريد التأليف تحت «حجج» عدة في كلّ مرّة يقترب التأليف، غير واقعية أو صحيحة، وتقول: «هذا الفريق لكي يهرب من مسؤوليته عن التعطيل كان يتحجّج في كلّ مرة بعذر، ومنها أنّ الحريري يريد أن يصادر حقوق المسيحيين، وأتت دعوة الفاتيكان الى الحريري لزيارة الكرسي الرسولي وهو رئيس مكلف وليس رئيس حكومة نالت الثقة، بحيث يتجاوز الفاتيكان للمرة الأولى المبادئ البروتوكولية ويستقبل رئيساً مكلفاً، ليظهر مدى أهمية موقع لبنان وموقع الحريري لدى الفاتيكان. فيما أنّ من يدعي في لبنان أنّه «بَي الكل» يقول إنّ الحريري يصادر حقوق المسيحيين، فضلاً عن مواقف البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الواضحة في هذا الاتجاه، أي حكومة لا حزبيين بلا ثلث معطّل».
وعن تأكيد عون أنّه لا يسعى الى الثلث المعطّل، تذكّر المصادر نفسها أنه عشية اللقاء الـ18 بين عون والحريري الذي كان يفترض أن يؤدي الى حلّ ما، بعث رئيس الجمهورية الى الرئيس المكلف بجداول لتعبئتها، وفي كلّ صيغة من صيغ الحكومات الـ18 والـ20 والـ22، حدّد عون حصته بما يؤمّن له الثلث المعطّل». إنطلاقاً من هذا كلّه، ترى المصادر إيّاها أنّ بري يتريث، مؤكدةً «انها جاهزة للسير في حكومة إختصاصيين لا حزبيين بلا الثلث المعطّل». وتعلن أن «لا مشكلة في توسيع الحكومة»، مركزةً على أنّ «الشرطين المستلزمين الأساسيين للحكومة، هما: وزراء اختصاصيون لا حزبيين مستقلّين وليس بالضرورة أن يكونوا ضد الأحزاب لكن حين يتخذ قرار في الحكومة لا يخرجون من مجلس الوزراء لكي يتصلوا بمرجعياتهم، وبلا ثلث معطّل لكي لا تحصل البازارات التي كانت تفتح عند كلّ مرة تريد الحكومة أن تتخذ قراراً».
وعن سبب هذا الرفض من الحريري لتسمية عون غالبية الوزراء المسيحيين أو حتى جميعهم، طالما أنّ أي فريق مسيحي لن يتمثّل في الحكومة، توضح مصادر «المستقبل» أنّ «هذه الحكومة لديها مهمة معينة، وهي إجراء إصلاحات وخطة إنقاذية لتقديمها للمجتمع الدولي لجلب مساعدات على أساسها، وإعادة الإعمار بعد كارثة المرفأ ومواجهة فيروس «كورونا». وتشير الى أنّ «عون مع حلفائه يشكّلون الأكثرية في مجلس النواب، وحين يرون أنّ الحكومة تنحرف عن الاتجاه الإنقاذي ضمن مهمتها وفق المبادرة الفرنسية والتي وافق عليها فريق عون، يمكنهم سحب الثقة منها».
أمّا لجهة ما يُطرح عن طلب الحريري ضمانات من باسيل، للموافقة على الالتقاء به في فرنسا، تؤكّد مصادر «المستقبل» أنّ كلّ ما يُحكى في هذا الإطار «تمنيات وتسريبات لجأ إليها باسيل لكي يظهر أنّه ما زال مقبولاً لدى المجتمع الدولي، وأنّ فرنسا تستقبله بعد العقوبات الأميركية. وكلّ ما يقال ويُكتب تلفيقاً. والرئيس الحريري لم يكن على دراية بهذا الأمر الذي يُحكى في الإعلام». وتكرّر ما سبق أن قاله الحريري عن أنّ «باسيل رئيس كتلة برلمانية، ومن حقه أن يطلب موعداً من الرئيس المكلف وحين يطلب موعدا يستقبله»، وتسأل: «لماذا على الحريري أن يذهب الى فرنسا ليجتمع بباسيل؟»، معتبرةً أنّ «هذه محاولة لباسيل لإظهار أنّه سيذهب الى فرنسا ليفاوض على الحكومة باسم «عمّه» رئيس الجمهورية، وهذا غير مقبول لا في لبنان ولا في فرنسا. فلا مشكلة في استقباله كرئيس كتلة لكن ليس لكي يفاوض باسم رئيس الجمهورية فهذا تجاوز للدستور»