لم تكن مهمة الرئيس الشهيد رفيق الحريري سهلة مع “أمراء الحرب”. رجل الاقتصاد وإعادة إعمار البشر والحجر بعيد جداً من خبراء الدموية وألعاب الشارع المخابراتية أو الميليشياوية. وتولّد لدى أي قارئ لحال لبنان أن الفوضى هي ساحة الميليشيات والاستقرار هو ساحة الاقتصاد والانماء. ولم يفكر يوماً الأب بأن يشكل أي جيش ميليشياوي لحمايته، فالسنة بفطرتهم يعتبرون أنفسهم أنصار الدولة وجيشها، وبالتالي أي إضعاف لمنطق الدولة هو إضعاف لهم.
ووفق المنظور نفسه، يستعد الحريري لرسم معادلاته للمرحلة المقبلة. ولا يمكن أن يختلف اثنان على أنه استقال ملبياً مطالب ثورة 17 تشرين. فـ”بيت الوسط” يسير على خطى “قصر قريطم” الذي لم يشارك في الحرب الأهلية، وهو غير مستعد لسقوط نقطة دم واحدة مقابل البقاء على الكرسي، كما لا يعاني هذا البيت من مرض الانفصام الممتد من بعبدا وميرنا الشالوحي إلى حارة حريك وعين التينة.
أدرك الحريري سريعاً أن العاصفة هذه المرة تحتاج إلى “نسخة الـ 2020 منه” القائمة على عدم مواجهة مطالب الناس. وما إن بات خارج سور المحميات السلطوية سارعت ذئاب السلطة إلى ملاحقته بهدف معاقبته، موجهة الأصابع نحو الحريرية السياسية، في محاولة واضحة لجرّه إلى اللعبة الدموية. ويقرأ الحريري التطورات كل يوم بيومه، واضعاً سياسة قائمة على معادلة ثلاثية: “الأمن – المعارضة والثورة – البيت الداخلي”، خصوصاً في ظل انهيار البلاد اقتصادياً، جراء ممارسات العهد وأهله القائمة طوال السنوات الثلاث، على عرقلة الانجازات ومن بينها مشروع “سيدر” بممارسات طائفية وعنصرية لا يليق استخدامها إلا بالقرون الوسطى.
أولاً: الأمن، ويبدو واضحاً أن الحريري تسلّح بضبط النفس والحكمة، بعدما لاحظ أن هناك محاولات لجرّه إلى لعبة دموية (سني – سني وسني – شيعي)، وسُجل في الأيام الماضية وجود فئتين عند نقطة مجلس النواب، الأولى سنية وأخرى تنتمي لفصيل جديد يريد فرض نفسه داخل السلطة. لوحظ تعمد استفزاز الشارع الأزرق عبر تخريب وتكسير “سوليدير” – طبعاً هو تصرف لا يزعج السلطة – لكنه قد يدفع بحرّاس الحريرية السياسية إلى النزول للدفاع عن حلم الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ما قد يؤدي إلى مواجهات تسقط على أثرها دماء تستفيد منها السلطة لتغيّر البوصلة إلى مواجهات ميدانية. وبالتالي يبدو واضحاً أن الحريري يعمل بتركيز كبير على ضبط شارعه لعدم النزول إلى وسط بيروت.
الفئة الثانية، وبعدما فضّلت السلطة عدم تلبية مطالب المحتجين، راح المحتجون إلى خيار اقتلاع السلطة عن بكرة أبيها، أي من مؤسسها “مجلس النواب” الذي يُعتبر محمية خاصة لـ”حركة أمل”. ما يذكّرنا بعرض العضلات المتعمد في غزوات متعددة على الرينغ والساحات، وبالتالي هناك خشية واضحة من أن يتجه هؤلاء إلى النزول إلى النقطة نفسها ومواجهة الفئة نفسها التي يتم استقدامها من الشمال، وبالتالي تولد فتنة “سنية – شيعية”.
ثانياً: المعارضة والثورة السلمية، فالخشية من تطورات أمنية وطوابير خامسة لا يعني قمع الثورة أو الدعوة إلى خنقها، فالمعارضة السلمية كانت كافية في بداية الثورة لدفع الحريري إلى الاستقالة، خصوصاً تلك التي خلع فيها اللبنانيون الثوب الحزبي والطائفي من أجل لبنان. ووفق المعادلة الواضحة أن الحريري لن يكون مع حكومة لا تلبي مطالب اللبنانيين. وعلى الرغم من ذلك، فإن الوضع الاقتصادي لا يحتمل لعبة الشارع، وعلى هذا الأساس فضّل الحريري عدم دعوة “المستقبل” والشارع السني خصوصاً للنزول إلى الساحات. واختار أن يراقب ويخوض معارضة ديموقراطية نظيفة، فهي حكومة باسيلية الهوى والمحاصصة ومن اللون الواحد حتى تثبت عكس ذلك، ويمكن قراءة أهدافها من: البيان الوزاري، أداء الوزراء، قرارات الحكومة.
ثالثا: ترتيب الوضع الداخلي، إذ يدرك الحريري تماما أن هناك تراجعاً في بيئة “المستقبل” ولن يقف مكتوف الأيدي تجاه ذلك، خصوصاً بعدما نزع عنه ثوب رئاسة الحكومة وتفرغ لمعالجة الثغرات في تياره، من دون أن يغيب عن ترتيب البيت الداخلي.