لا سعد الحريري ولا أيّ من اللصيقين به يملك جواباً على سؤال مفصلي: ما هو مصير الحريرية السياسية؟ واستطراداً: ما هو مستقبله السياسي؟ ماذا ينتظر رئيس الحكومة السابق بعد وقوع الانهيار الكبير؟ ماذا سيفعل في ما لو طالت اقامة حسّان دياب في السراي الحكومي؟ ما هي الأطر السياسية البديلة “للحريريين”؟ هل يقنعهم الجلوس في صفوف المعارضة؟ هل يغريهم؟ ماذا سيبقى لهم في ما لو جرف تسونامي الانهيار كل “هيكل الطائف” وحماته؟ ماذا بقي للحريري من خطوط دعم وقوى داعمة؟
عملياً، يواجه الحريري أقصى اختبار عرفه منذ دخوله حلبة الملاكمة السياسية: هل لا يزال قادراً على الصمود؟ هل بإمكانه البقاء في المعترك؟ ما هي أدوات الصمود ومن أين يأتي بغطاء اقليمي أو دولي؟
أسئلة كثيرة تجتاح أذهان الحريريين عشية احياء الذكرى الخامسة العشرة لاغتيال رفيق الحريري، ترفع من منسوب قلقهم وهواجسهم، وسط أزمة مالية – اجتماعية تهدد كل التركيبة اللبنانية ولا تعفي أياً من المستفيدين منها طوال عقود، ومنهم المنظومة الحريرية.
يقول أحد المواكبين للحريرية السياسية، إنّ اسطورة نجاح رفيق الحريري، لا توازيها وقعاً وغموضاً وإثارة، إلا “اسطورة” الهزائم التي مني بها نجله، في السياسة كما في البيزنس. لا يمكن لمن ورث ثروة مالية وشعبية بلغت حدود الزعامة التاريخية، أن ينتهي به المطاف على رصيف انتظار تطور ما قد يعيده إلى الواجهة.
لا يحسد رئيس الحكومة على المآل الذي بلغه بعد 15 عاماً على وضع عباءة الزعامة فوق كتفيه. بات مثقلاً بالأزمات التي يعجز عن مواجهتها أو حملها: المظلة الدولية تكاد تطير من فوق رأسه، حتى أنّ هناك من ينقل عن ديبلوماسي غربي بارز قوله قبيل اعتذار الحريري عن التكليف إنّه “لسوء الحظ قد يعاد تكليف الحريري”. لم تصدّق أذنا الضيف أنّ السفير يتحدث عن الحريري نفسه بمنطق “سوء الحظ”. وذلك أسوة بمواقف بعض العواصم الغربية التي راحت في الفترة الأخيرة تشجع اللبنانيين على الاسراع في تأليف الحكومة بمعزل عمن يرأسها.
أما علاقته في السعودية، فقد خرجت من أسْر الصالونات المغلقة، وبات يُسمع كلام كبير عن تردي علاقته بالمملكة، لأسباب تعود إلى الرياض قبل غيرها، وتتصل بتغيّر سلم أولويات السعودية في المنطقة، ما أخرج لبنان من كل دائرة اهتمامها. فلا الزيارة الأخيرة تحققت ولا اللقاء المرتقب مع ولي العهد محمد بن سلمان حصل.
ورغم ذلك، يحاول الحريري تخطي كل هذه الحواجز، ليكمل مسيرته. سيلتقي “مريديه” اليوم في ذكرى اغتيال والده، بعدما نقل الاحتفال من “البيال” إلى “بيت الوسط” خشية من أي اشكال أمني من شأنه أن يعكّر صفو المناسبة، ويلصق الذكرى بحوادث أليمة، باتت جزءاً من توقعات المراصد الأمنية. لم يكن الحشد الجماهيري هدفاً بحدّ ذاته طالما أنّ الزمن ليس “زمن عدّ” واستقطاب، ولذا لم يجد المنظمون حرجاً في تقليص حجم الصورة الحاشدة، لأنّ المهم هو ما سيدلي به رئيس “تيار المستقبل” أمام مؤيديه.
لا شك، أنّ البلاد تمرّ في مرحلة دقيقة، لن تنفع معها الاستدارة من جانب “الأزرق” نحو الشارع المنتفض للتماهي معه، خصوصاً وأنّ “الحريرية” ركن أساسي في منظومة المصالح التي حكمت البلاد منذ عقود. وبالتالي سيكون ضرباً من ضروب الخيال اقناع الرأي العام المعترض أنّ لهم في “التيار الأزرق” حلفاء أو أصدقاء.
اذاً، لا مجال للرهان على عصب قد يشتدّ من جديد في ما لو تبوأ “المستقبليون” كراسي المعارضة ووقفوا بالمرصاد لحكومة حسان دياب، التي تحولت إلى حاجة ماسة للجميع في هذه المرحلة الخطيرة بدليل حرص المعارضين على المشاركة في جلسة الثقة، قبل الموالين.
منذ 17 تشرين الأول، اهتزت الأرض تحت قدميّ سعد الحريري كما تحت أقدام كل قوى السلطة. تحولت رمالاً متحركة قادرة أن تبلع كل شيء. فقد رئيس الحكومة السابق العهد بعموده الأساسي، جبران باسيل. لكنه في المقابل لم يكسب شيئاً. إعتقد الرجل أنّ انسحابه في لحظة انفجار البركان الشعبي، قد يعيد إليه ما أفقدته التسوية الرئاسية طوال النصفية الأولى من العهد العوني، لكنه خسر في اللحظة الأخيرة كل شيء، وآلت السراي إلى حسّان دياب لأنها لم تدم لسلفه.
من مفارقات السياسة في لبنان، أن لا يبقى للحريري إلا التفاهم مع الثنائي الشيعي. قالها مراراً وتكراراً في مجالسه إبان رئاسة الحكومة: وحدهما الرئيس نبيه بري و”حزب الله” لم يتذاكيا عليّ. وبعد استقالته، وحدهما تمسكا به رئيساً للحكومة الجديدة. يذهب البعض إلى حدّ القول إنّ هذه العلاقة، هي السيبة الثلاثية التي يعتقد الحريري أنّه يمكنه الرهان عليها للمستقبل. الثلاثة يحتاجون إلى تقطيع المرحلة الراهنة بأقل الخسائر الممكنة، ولذا قد تكون حكومة حسان دياب هي الدواء لتمرير المرحلة بانتظار انقشاع الغيوم. والاعتقاد السائد أنّ رئيس الحكومة السابق يضمن “خطّ الرجعة” من خلال “حزب الله”، لا غيره. وهذا وحده سبب كاف ليزداد الحصار الدولي عليه.
في النتيجة، لن يكون أمام الحريري سوى سلوك طريق الهجوم على العهد بفعل اضطراره تحييد “حزب الله” عن لوحة اصاباته. المشكلة، أنّ التصويب على رئاسة الجمهورية وباسيل قد يكسبه بعض الشارع المفقود، ولكنه قد لا يعيد فتح الأبواب المغلقة. ومع ذلك، يعوّل الحريريون على الورشة الداخلية التي ينوي رئيس “تيار المستقبل” الانكباب عليها لتكون الخطوة الأولى في طريق طويل، بموازاة مراقبة الحكومة ومساءلتها في كل شاردة وواردة والعمل للخروج من قعر الأزمة المالية.
ويؤكدون أنّ للحريرية السياسية نبضها وعصبها غير المرتبطين بزمن أو مرحلة أو بظروف، مشيرين إلى أنّ الخروج من السلطة لا يعني أبداً الخروج من المعادلة، وبالتالي لكل مرحلة أدبياتها وأساليبها.