السذاجة التي تسيطر على المشهد السياسي، تجعل كثيرين يصدّقون بأن الرئيس سعد الحريري يريد تشكيل حكومة. أو لنقل بدقة أكبر، يريد تشكيل حكومة بالتشارك مع القوى النافذة في البلاد. حقيقة ما يجري منذ شهور طويلة جداً، تعود إلى يوم استقال من رئاسة الحكومة على أثر اندلاع تحركات 17 تشرين عام 2019، أن الحريري لا يريد تشكيل إلا الحكومة التي تمنحه وفريقه من الحلفاء أكثر مما كان بيدهم قبل أزمة 17 تشرين. لكنّ حظ الحريري كما حظ حلفائه في السلطة، كان كبيراً بنوعية المعارضة التي قامت بوجههم، سواء من داخل الحكم أو من خارجه. والحريري نفسه، بخلاف كل ما يشاع، لم يُظهِر يوماً خوفاً من الغاضبين في الشارع. أصلاً، اكتشف هو كما الآخرين، وسريعاً، أن هذا الحراك تمّ ضبطه من قبل مجموعات لا تخرج كثيراً عن سيطرة القوى الكبيرة، سواء داخل البلاد أو خارجها. هو يعرف أنه في نهاية الأمر، لم تحصل انتفاضات داخل المجموعات والقبائل اللبنانية بما يهدد موقعه. وحصيلة ما جرى منذ ذلك الحين إلى الآن، أن التبدلات على مستوى الولاء السياسي للجماعات اللبنانية، ليست من النوع الذي يجعله هو أو بقية أركان السلطة الحقيقية يخشون على شيء. أليس كافياً للحريري، أنه بعد كل ما جرى، لم يجد اللاعبون غيره لترشيحه لتشكيل الحكومة؟ أليس كافياً له أن لا يكون هناك في قبالته أي مرشح جدي يحظى بدعم بقية القوى السياسية أو يحظى بـ«الشرعية التمثيلية المتعارف عليها»؟ حتى هو يقول لمن يهدده: انظروا، هذا حسان دياب يريد الانضمام إلى نادي رؤساء الحكومات، يرسل مستشاره والأمين العام لمجلس الوزراء، ولا يقوم بما يُغضب المرجعية السياسية لموقع رئاسة الحكومة. وأكثر من ذلك، فالحريري الذي يعاني من غضب السعودية عليه، وهو الغضب الأكثر إزعاجاً له، يعرف أن الرياض لم تقدر على خلق بديل عنه، لا من العائلة ولا من التيار ولا من القيادات السياسية. وفي هذه أيضاً، يقول لمن يلوّح له بهذا السيف: انظر، أين هو شقيقي بهاء، وأين هم كل الذين تمرّدوا وحاولوا صياغة موقع خاص لهم، من نهاد المشنوق إلى أشرف ريفي إلى رضوان السيد حتى فؤاد السنيورة، صحيح أنه غير معجب بكل ما أقوم به، ولكنه لا يخرج من عباءة هذا المنزل. وإذا ما تطور الأمر أكثر، فثمة من حول الحريري من يلفت الانتباه إلى أن الغضب الذي ساد الشارع، لم يكن في قلب القاعدة الاجتماعية والطائفية التي يمثلها، لا صور رفيق الحريري أحرِقَت، ولا تم التعرض لبيته في وسط بيروت، ولا ألقيت الحجارة على مقرات تخصّه، ولا أعلن أنصاره الانشقاق عنه… فلماذا الذعر؟
الحريري يهدّد بالاستقالة مطلع أيلول حتى تُؤلَّف حكومة انتخابات… وبري معه لكنه مُربَك في حمايته
من هذه الخلفية يتصرف الحريري اليوم. هو يريد أن يكون رئيساً للحكومة. لكنه لا يريد أن يكون رئيساً كيفما اتفق. هو يسعى إلى هامش كبير للتحرك بحرية، ما يعني إعادة الروح والتفاعل إلى الحلف الذي جاء منه وعمل فيه، أي إلى العلاقة العملانية المثمرة مع الرئيس نبيه بري وزعيم الغالبية الدرزية وليد جنبلاط والنائب السابق سليمان فرنجية وآخرين، ممن يشكلون أركان النظام المالي والاقتصادي والتجاري، إضافة إلى المؤسسات الدينية الرسمية. وهو يريد أن يعمل مع حلفائه لا لأجل تثبيت وجوده في الحكم وحسب، بل أيضاً لإعادة إنتاج النظام نفسه، ولو على حساب الآخرين. ولذلك يتحدّث الحريري عن طريقة تشكيل الحكومة ولا يتحدث عن برنامج عمل الحكومة، لأن جدول أعماله مبتوت سلفاً ومحصور في بند واحد: الالتزام بوصفة صندوق النقد الدولي والمؤسسات الغربية والعربية. وبالتالي، فإن مشكلته الفعلية مع الرئيس ميشال عون، لا تنحصر في كون الحريري يريد (ومعه كل شركاء الحلف) الاختتام المبكر لولاية عون، بل قبل ذلك تحميل الأخير مسؤولية كل الأزمات القائمة. وإذا كان متعذّراً إجباره على الاستقالة، فإن الحريري ومعه الحلفاء يريدون تشكيل حكومة لا يقدر عون على أن يمارس عبرها أي دور شراكة على صعيد إدارة الدولة. وعندها يتم دفن الملفات دفعة واحدة: انسوا التدقيق الجنائي، طوّبوا رياض سلامة حاكماً للمال والنقد إلى الأبد، عزّزوا خيار الخصخصة وبيعوا ما تبقّى من مؤسسات عامة منتجة، اذهبوا وارتضوا بما يقرره العرب والغربيون لكم ونقطة على السطر!
لكنّ الحريري، كما الآخرين من الحلفاء، يحاولون تمرير الأمور وكأنّ شيئاً لم يكن. وهو هنا يسعى لاستثمار ما يعتبره «قبولاً غير طوعي به من قبل حزب الله». وصحيح أن الحزب يدعم فكرة أن يكون سعد الحريري رئيساً. لكنّ للحزب حساباته التي لا تتصل بحسابات الآخرين. ولكن الحريري يستند إلى موقف الحزب ليقول صراحة لكل من حوله ولزواره الأجانب أيضاً: الثنائي الشيعي معي. والرئيس بري هو مثل أبي وأمي وأخي ورفيقي…
الحريري، وبسبب نقص في الخبرة «وأشياء أخرى» على ما يقول وليد جنبلاط، لا يجيد إدارة هذه العلاقة الخاصة التي تربطه بالرئيس بري. فمثلاً، عندما وافق عون ومعه جبران باسيل على صيغة وسطية تسمح بتشكيل الحكومة، شعر بري ومعه جنبلاط وآخرون بأن هامش المناورة قد ضاق. ولذلك مارسوا بعض الضغط على الحريري. لكنّ الأخير عاجلهم فوراً بأنه لن يقبل صيغة وسطية، بل يريد صيغة تسمح بإطلاق يده. وعندما لم يجد التجاوب، بادر إلى التلويح بالاعتذار، ما دفع ببري إلى إبلاغه بأن هذا الموقف سيجعله وحيداً وسيخسر كل من يقف إلى جانبه. ويقول الرواة إن بري أقنع الحريري بترك هذه الورقة. ثم سارع رئيس المجلس إلى إبلاغ الجميع بأن الحريري لن يعتذر. لكنّ الأخير، لم يعجبه الأمر، فتولى شخصياً جمع كل العاملين معه من نواب وقيادات حزبية وطلب منهم أن يبلغوا كل من يهمه الأمر، بأنه ينوي الاعتذار إذا لم تتم تلبية مطالبه في تشكيل حكومة تناسبه. ولم يكتف بذلك، بل عاد وأبلغ بري بأنه عندما يعتذر، فسيستقيل من المجلس النيابي. وهو الأمر الذي أثار غضب رئيس المجلس الذي أبلغ بعض القوى، وخصوصاً حزب الله، أنه في حال قرّر الحريري الاعتذار والاستقالة من مجلس النواب، فسيطلب إجراء انتخابات فرعية عاجلة. وحجة بري أن «البلاد تمرّ بأزمة كبيرة: هناك مشكلة في رئاسة الجمهورية والحكومة مستقيلة، ولا أعرف إذا كانت الظروف ستسمح بإجراء الانتخابات النيابية العامة، ما يعني أنه يجب أن يكون المجلس النيابي كامل المواصفات للعمل في الأوقات الصعبة!».
لا يشعر الحريري بضغط سُني أو سعودي أو غربي ويرى فرصة بابتزاز الثنائي الشيعي وهدفه تعطيل عون أو إزاحته
ومع ذلك فالمشكلة لم تُحل. صحيح أن بري وجنبلاط وآخرين يشكون من أن باسيل لا يتعاون أو لا يقدم التنازلات الضرورية، لكنّ رئيس المجلس وحلفاء الحريري يعرفون أن الأخير لا يريد تشكيل الحكومة بالشراكة الفعلية مع عون وباسيل. بل إن الحريري الذي يعرف حقيقة الأوضاع المالية والاقتصادية، يردّد مراراً: من يقبل تشكيل حكومة ستقر سريعاً برامج رفع الدعم وتحرير كامل للعملة وتقليص القطاع العام، هو شخص انتحاري لا يخوض أي انتخابات نيابية.
الحريري يشعر الآن بأنه لا يعيش تحت ضغط جدّي من أحد، لا داخلياً ولا خارجياً. فكرته تقول بأن الولايات المتحدة وفرنسا وحتى السعودية لا تمارس عليه ضغوطاً كي يتنحّى. والحلفاء معه في لبنان ليس لديهم خيار آخر، والمشكلة قد تبرز في حال قرّر بري وجنبلاط السير مع حزب الله في وجهة الاستغناء عنه وتكليف شخص آخر. وعند هذا السقف يعتبر الحريري أن بيده الحل – الرد:
حسناً، لننتظر أسابيع إضافية، شهراً أو شهرين أو أكثر بقليل. لا اعتذار، لكن لا تأليف إلا وفق شروطي. وفي حال قرروا الإطاحة بي، فسأعتذر عن عدم تأليف الحكومة، وسأستقيل من المجلس النيابي. وفي هذه النقطة، يخرج من محيط الحريري من يقول بأنه لن يستقيل قبل أيلول المقبل، وعندها لا يقدر الرئيس بري على المطالبة بانتخابات فرعية. وعندها، يستطيع الحريري أن يقول بأنه يمكنه هو أو من يراه مناسباً، تشكيل حكومة انتخابات وليس حكومة مهمة الإنقاذ كما قال الفرنسيون.
لكنّ السؤال: هل يريد الحريري حصول انتخابات نيابية مبكرة أو حتى في موعدها؟ وهل هو جاهز لها؟ وهل لديه التمويل اللازم؟ ثم هل يضمن النتائج كما يريدها؟