Site icon IMLebanon

دولة “الأرانب” !

 

لا يمكن لأي عاقلٍ أن يتمنى أن يكون في موقع الرئيس المكلف سعد الحريري اليوم. فالرجل الذي صار أسير لعبة الآخرين في مساحة حضوره السياسي ومسؤوليته الدستورية، وجد نفسه بلا مُعينٍ حقيقي يُصْدِقُهُ القول والفعل، أو يقدم له نصيحة لوجه الله بدون مصلحة مباشرة أو غاية مطوية.

 

وفي وقت تتأرجح فيه علاقاته مع رعاة وأصدقاء والده الرئيس رفيق الحريري التاريخيين بين رافض للحديث معه وبين آخر ينأى بنفسه عنه، وحده رئيس مجلس النواب نبيه بري يجيد الإستثمار فيه. فقد قيل ان بري أبلغ سماحة مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان قبيل إجتماع المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى الأخير، أنه في حال مضى الرئيس الحريري في قراره الإعتذار عن تكليفه بتشكيل الحكومة، فإن ذلك سيرتب عليه تداعيات كثيرة أولها قطيعة كاملة لا عودة عنها مطلقاً بينه وبين الرئيس الحريري.

 

من الطبيعي أن يسعى الرئيس بري الى تثبيت الحريري في مهمة التكليف، فهو كان قد أسقط تكليفاً سابقاً وحكومة سابقة تصرف الأعمال بقوة الأمر الواقع لتمهيد الطريق لعودة الحريري الى رئاسة الحكومة، إنما من موقع الخصومة بل العداء مع رئيس الجمهورية ميشال عون ومع وريثه الإفتراضي صهره النائب جبران باسيل، بعد أن كانت قد مرت سنوات ثلاث عجاف على بري نتيجة ما سمي “التسوية الرئاسية”، والتي أدخلت شريكاً محاصصاً جديداً على منصة الثلاثي “الحريري، بري وجنبلاط”.

 

يوم تم تكليف الدكتور مصطفى أديب بتشكيل حكومة ذات نكهة فرنسية وبقوة دفع قصوى من رأس الدولة في باريس إيمانويل ماكرون، تلمس هذا الثلاثي مخاطر كلام الأخير المباشر والإتهامي لهم بشكل أساسي، فراحوا يبحثون عن مخرج عرفي-طائفي يخرجهم من الحرج ويضع حداً لإندفاعة ماكرون، فكان المخرج بتمسك الرئيس بري بوزارة المالية كحق مكتسب للطائفة الشيعية من باب المشاركة بالتوقيع الثالث أو الرابع في القرار في السلطة التنفيذية، في وقت ليس هناك من توقيع أول فعلي يملكه رئيس الجمهورية. وفي الواقع أن هذا التوقيع المُبتدَع ليس سوى وسيلة لوضع “الفيتو” على القرارات والمراسيم التي يمكن أن تمر من دون التحاصص عليها.

 

لم يصمد الدكتور أديب مطولاً أمام هذه المناورة وغيرها، فقرر الخروج الآمن والمحترم من المشهد السياسي. وعادت الأمور الى مربع إعادة إنتاج المنظومة ذاتها مع وعود جازمة أطلقها بري لجهات عدة داخلية وخارجية أن تشكيل حكومة حريرية جديدة سيتم خلال أسبوعين، وبالتالي لن تذهب البلاد الى فراغ في السلطة التنفيذية يزيد الواقع الاقتصادي والمالي والمعيشي تأزماً، وهو هاجس كان وما زال يؤرق قيادة “حزب الله”.

 

وما هي إلا أيام حتى تبين أن هذه الوعود إنما كانت تهدف الى إستيعاب هجمة الرئيس عون في ما يتعلق بطروحاته في حكومة الدكتور حسان دياب حول مشروع قانون “الكابيتال كونترول” وقرار “التدقيق الجنائي المالي”، وذلك من خلال العودة الى الإمساك بمفاصل القرار في مجلس الوزراء أو على الأقل تعطيل أية إمكانية للسير ببعض المشاريع الإصلاحية المُلحة نتيجة الأزمة الكارثية التي يمر بها لبنان واللبنانيون. هذه الطروحات التي كانت السبب الفعلي لإسقاط حكومة دياب، ولم تكن قضية إثارة الأخير في إحدى إطلالاته الإعلامية لموضوع الانتخابات النيابية المبكرة سوى ذريعة للإنقضاض عليه وعلى حكومته.

 

إن المشكلة الأعمق التي يواجهها لبنان واللبنانيون اليوم، أن هذه المنظومة بأطرافها كافة ما زالت تقارب الواقع المأسوي بأساليب بالية قائمة على التهريج السياسي وتبادل الإتهامات والهروب من المسؤوليات وتحميلها للآخرين.

 

وبعيداً عن صيغة “الممثل القوي” لطائفته التي إبتدعها النائب جبران باسيل مع بداية عهد عمه، بهدف تبرير التسويات الفوقية وتكريس أعراف غير دستورية في تقاسم السلطة والنفوذ في الدولة، فإن مراجعة بسيطة لواقع الأمور حالياً يقودنا الى التالي:

 

أولاً، إن مبادرة الرئيس الفرنسي ماكرون كانت تقوم على أجندة إصلاحية وإقتصادية ومالية واضحة، مما يعني أنها كانت يمكن أن تشكل نواة للحد من الإنهيار المتدحرج في المؤسسات وتباعاً المجتمع، كما أنها كانت ستحدد جدولاً زمنياً واضحاً للخروج التدريجي من الأزمة.

 

في حين أن ما سمي بمبادرات داخلية أخرى قام بها غبطة البطريرك الماروني ما بشارة بطرس الراعي أو الرئيس نبيه بري لم تلحظ سوى السعي للتفاهم على تنظيم المحاصصة الوزارية والتي ستستتبع حكماً بمحاصصات في المجالات كافة.

 

ثانياً، إن ما يدعيه بري من إحتضان القوى الدولية والإقليمية لمبادرته المزعومة، لم يظهر بشكل جلي وواضح في مواقف هذه القوى، وبقراءة سريعة لبعض هذه المواقف يمكن إستنتاج الخلاصات التالية: عدم إكتراث أميركي، إعادة صياغة فرنسا لمقارباتها اللبنانية إنطلاقاً من غضب دوائر القرار فيها بسبب الجحود السلطوي اللبناني بمبادرة ماكرون، إقتناع مصري متأخر بعدم جدوى الرهان على حس المسؤولية المفترض لدى المسؤولين اللبنانيين، شعور خليجي عميق وجارح بالخذلان من كثير من هؤلاء المسؤولين ومن سياسيين آخرين، وفوق ذلك تربص سوري بهم نتيجة خياناتهم أو عدم الوفاء بإلتزاماتهم للقيادة السورية في المفاصل الحساسة التي مرت بها دمشق، وخصوصاً خلال سنوات الحرب الكونية الأخيرة عليها.

 

ثالثاً، إن لبنان يحتاج، الأمس قبل اليوم، الى رئيس حكومة لديه القدرة على فتح آفاق العلاقات الإيجابية مع المحيط العربي والإقليمي والمجتمع الدولي ومؤسساته، خصوصاً في ظل إنتفاء وجود بدائل داخلية أو خارجية أخرى ممكنة أو محتملة مستقبلاً، سوى تعايش اللبنانيين القهري مع وقائع العوز والفقر والإذلال.

 

وبكل موضوعية، فإن الرئيس سعد الحريري ليس الشخص المؤهل حالياً لقيادة سفينة الإنقاذ المرجوة، بالأخص بعدما ألزم نفسه خلال أشهر التكليف الأخيرة بعداوة مع رئيس الجمهورية شريكه الدستوري الطبيعي في صياغة وإدارة السلطة التنفيذية، وأيضاً بعدما ظهر بمظهر مسلوب الإرادة السياسية من خلال الإختباء خلف المفتي دريان والرئيس بري، وبالتالي فإن من ينقاد لا يمكن أن يقود.

 

آن الأوان أن يقتنع بعض المسؤولين بأن سيرك التهريج والألاعيب البهلوانية قد أُقفل، وبأن الجمهور ما خلا الأزلام والمحاسيب قد مَلَّ من تكرار المشهد الممجوج، وبأن تشغيل “الموتيرات” وإستحضار الأرانب والخدع الباهتة لم تعد تنطلي على أحد، لأن الواقع المأسوي والكارثي أسوأ بكثير من أن يتم إحتواؤه من قبل الذين صنعوه.

 

كما آن الأوان أن يقتنع هؤلاء أن خروجهم من السلطة صار شرطاً لإعادة الإعتبار الى مشروع الدولة والإحتكام الى الدستور.

 

(*)قيادي سابق في حركة أمل