لن يكتشف المراقبون كثيراً من خفايا ما جرى في المفاوضات الاخيرة التي قادها الثنائي الشيعي بين التيارين الأزرق والبرتقالي، وسيكتفي بعضهم بالتوقف عند النتائج السلبية الأخيرة التي عكستها مواقف ساكن البياضة. وعليه، طرح السؤال: هل فهم احد ما أراده رئيس مجلس النواب نبيه بري وما استقرّت عليه مبادرته؟ وماذا يمكن ان يكون عليه موقف «حزب الله» المحرج بين حليفه وحليف الحليف؟ وما الجديد؟
لا يُبنى كثير في مختلف المواقع الديبلوماسية والسياسية والحزبية على ما يمكن تسميته تلبية مطالب رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل عندما أودع حقوق المسيحيين لدى الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله. ولذلك تتجه الانظار الى صيغة وسطية ما زالت غامضة حتى اليوم بسبب تَريّث الحزب في قول كلمته الفصل في ما طلب منه في انتظار جولة المفاوضات والمشاورات الواسعة التي بدأت لمعرفة الخلفيات الكامنة خلف موجة التصعيد الجديدة ودرس الخطوات التي يمكن الحزب ان يقوم بها بتأنٍ ودقة بين مجموعة المتناحرين، خصوصاً انّ من بينهم شريكه التوأم في «الثنائية الشيعية» وآخر تلقّى وعداً بدعمه «الى يوم الدين» وسط صعوبة تفضيل أيّ منهما على الآخر.
فليس سراً القول انّ موجة التصعيد الاخيرة التي تسببت بها مواقف باسيل الاحد الماضي وما سبقها ورافقها وتلاها، جمّدت في الشكل كل المساعي المبذولة لتوليد مشروع التشكيلة الحكومية بما فيها الصيغة «الفذة» لفك عقدتي التمثيل الكاثوليكي والدرزي – بحسب زَعم من طالب بها – التي قالت بتركيبة الـ 24 وزيراً بدلاً من تركيبة الـ 18. وإن اعتقد بعضهم انّ التأليف بات حلماً بعيد المنال، فهم يستدركون قبل الوصول الى مرحلة الجزم بتلك النظرة التشاؤمية. وبديلها باتَ رهناً بتطوّر ما قد يكون مفاجئاً. وهو امر لن يخلو من القلق بسبب صعوبة تحقيقه، إن صدق أصحاب المواقف المتنافرة وبقي أصحابها على تشددهم. يصرّون على المناداة من منابرهم بما يريدون في غياب من يمكنه جمعهم عند نقطة وسطية جامعة، من أجل الإنتقال الى مرحلة اكثر إيجابية بمعزل عن حجم المآزق المتنامية التي طاولت مختلف وجوه حياة اللبنانيين.
على هذه الخلفيات، ترصد المراجع المعنية مختلف التطورات المقبلة وما يمكن أن تسفر عنه محاولة مسؤول التنسيق والارتباط في «حزب الله» وفيق صفا لدى باسيل لإحياء ما انقطع من حوار بينه وبين بقية الاطراف بمَن فيهم الوسطاء. عدا عن الحاجة الى ما بات مطلباً ضرورياً يقول بإعادة النظر بمضمون تفاهم مار مخايل بين طرفيه ومدى الترابط بين ما يمكن مقاربته وذلك الحوار الأوسع الذي كان جارياً بقناة «الثنائي الشيعي». وعدا عن هذين الاحتمالين يتوقف المراقبون أمام قدرة باسيل على إدارة هذا الحوار بعدما كلّف نفسه خوض المواجهة الجديدة تحت شعار «استعادة الحقوق المسيحية»، قبل ان يلقى اي تفويض من أي طرف آخر. فما هو ظاهر للعيان انه لم يلقَ اي دعم بعد، من اي فريق مسيحي روحياً كان ام سياسياً أو حزبياً. وبقيت ردات الفعل الإيجابية التي تلقاها على موقفه الأخير محصورة ببعض الشخصيات من محيطه الحزبي والمقرّبين من رئيس الجمهورية، ولو بخَفر شديد.
ومَردّ ذلك الى انّ الرجل فقدَ معظم مَن سانده من أطراف التسوية السياسية التي عقدت عام 2016 وقادت العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية مع التعهّد ببقاء الحريري في السرايا الحكومية مع ما رافق كل ذلك من تفاهمات متناقضة جمعت أصحاب المصالح المتنافرة لمرحلة لم تطل كثيراً. وعليه، وبعدما اصيب التكتل النيابي الذي يقوده باسيل باهتزازات قوية لا يمكن تجاهل تردداتها القاسية على مستوى القيادة الحزبية والقاعدة الشعبية معاً. وإن ألقيت النظرة على ما هو أوسع من القاعدة الحزبية، فإنه لم يكن مستغرباً ما حصل بعدما وضع حجر كبير على قبر «تفاهم معراب» و»اتفاق كليمنصو» وتسوية «بيت الوسط» التي مكّنت صاحب العهد ومن معه من تجاوز «عتبة بنشعي»، عدا عن حجب المواقع الأخرى السياسية والحزبية التي بقيت على هامش التسوية التي بقي خارجها قلائل يتمركزون اليوم في مواقع «المعارضة المستدامة» بعيداً من محاولات بناء مثيلات لها «مؤقتة» وعلى القطعة.
هذا على المستوى السياسي والحزبي للمأزق القائم، وإن عاد بعض المراقبين الى الوجه الدستوري للأزمة لا يمكنهم عند مقاربة مطالب باسيل الجديدة بطلب الدعم والمساندة من حليفه «حزب الله» سوى التوقف أمام ملاحظات رئيس الجمهورية ميشال عون التي سبق ان شدّد عليها قبَيل مطالب باسيل بأيام قليلة، والتي لم تكن في حال التزم بها باسيل أن تسمح بما ذهب إليه في موقفه الاخير. فهو خرجَ في وضعه حقوق المسيحيين في عهدة السيد نصرالله في أسرع وقت متوقع عن مضمون دعوة رئيس الجمهورية الملحة التي أطلقها عبر «مكتب الاعلام في رئاسة الجمهورية» للعودة الى الدستور. فهو كان صريحاً في دعوته «المرجعيات والجهات التي تتطوع مشكورة للمساعدة في تأليف الحكومة» الى «الاستناد الى الدستور والتقيّد بأحكامه وعدم التوسّع في تفسيره»، مع التشديد على ان لا أفق للمهمة ما «لم يسلك الممر الوحيد المنصوص عنه في المادة 53 من الدستور» عدا عن ضرورة احترام «الآلية الواجب اتّباعها لتشكيل الحكومة التي تختصر بضرورة الاتفاق بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف المعنيين حصرياً بعملية التأليف وإصدار المراسيم».
ولذلك، فقد ارتفع منسوب التذمّر والانتقاد لخطوة باسيل من أهل البيت البرتقالي قبل غيره، ولو في السر، قبل صدور الأصوات المنددة باختصاره المسيحيين وادّعائه وحيداً بالدفاع عن حقوقهم في خطوة سجّلت خروجاً على ما قال به رئيس الجمهورية. والى هذا الخرق الفاضح للدستور قبل ان يجفّ حبر ملاحظات بعبدا، والذي لا يبرره اي تفسير دستوري او سياسي، فقد اعتبر موقف باسيل دعسة ناقصة لا يعرف كيف يمكن تَدارك تفسيراتها السلبية، خصوصاً اذا لم يستطع «حزب الله» ان يعطيه ما اراد، ما لم يجر تحوير أهداف مبادرته واعادة تفسيرها مجدداً لإسقاط ما هو سلبي منها رغم صعوبة المهمة.
وبعيداً من كل هذه النظريات وتداعياتها المتوقعة، هناك من يتحدث عن نصيحة أُسديت الى رئيس الجمهورية وباسيل ومن يقف معهما بضرورة تدوير الزوايا مجدداً والسعي الى ترميم العلاقة مع «بيت الوسط» أيّاً كانت الكلفة. فتحميلهما منذ فترة طويلة الحريري مسؤولية فشله في تشكيل الحكومة بسبب عدم رضى المملكة العربية السعودية على سلوكه وأدائه السياسي قد يكون دافعاً لهما لتسهيل مهمته. وعليه، طرح السؤال حول إمكان ان تكون نصيحة «حزب الله» لباسيل نسخة طبق الأصل عن هذه النصيحة؟