Site icon IMLebanon

سنة لبنان في غرفة الانتظار

كما كان متوقعاً أثار المقال الفائت حول ما قد يكونه قرار رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق سعد الحريري، استمراراً أو عزوفاً عن المشاركة في الحياة السياسية، شتى أنواع «التدقيق» الجنائي وغير الجنائي في خلفيات ومقاصد ما كتب. بيد أن تجاوز شخص الحريري هو المدخل الجاد الوحيد لقراءة أزمة السنة في لبنان (والمشرق العربي)، التي تعد أزمات الحريري بعضاً من تعبيراتها الأكثر حدة ووضوحاً.

السؤال الذي يثيره قرار العزوف، لو تحقق، هو السؤال البديهي عن البديل، وهذا تكرر في تاريخ تجربة السنة وتجارب لبنانية أخرى، ألحت في الماضي على كثيرين، وهي تلح اليوم على جميع الطوائف تقريباً.

لطالما كانت أدوار الطوائف اللبنانية تقوم على مزيج، تتفاوت النسب فيه، بين مرتكزات داخلية محلية وموجات خارجية تترجم نفسها خيارات سياسية على «الساحة اللبنانية».

هكذا ركب رياض الصلح مثلاً موجة غربية في لحظة استقلال لبنان عام 1943، في مواجهة فوائض العروبة التي تبناها «خصومه»، ومهد لدور قيادي للسنة على قواعد «سنية لبنانية» تخلط بين عروبة مخففة و«تسامح» مع خصوصية لبنان «الغربية»، والأهم «تسلخ» لبنان عن سوريا «بالتآمر» مع الانتداب الفرنسي. وليس من باب الصدف أن ترديه عام 1951 رصاصات «قومية سورية».
أما من مفارقات التموضع السني الصعب الذي كان ينحت الصلح مكانه في التركيبة اللبنانية أنه ما لبث أن اصطدم هو ورئيس الجمهورية الماروني بشارة الخوري بالفرنسيين، بعد إعلانهما مع آخرين «الميثاق الوطني»، ما أدى إلى اعتقالهما فرنسياً، ثم رسم المشهد الأخير لاستقلال لبنان الذي مرت ذكراه قبل أيام.

بتر اغتيال الصلح مسار زعامة سياسية سنية كانت بدأت تتمدد خارج العاصمة بيروت، وإن بقي منها الكثير في حقبة الخمسينات التي يختصرها عهد الرئيس الماروني كميل شمعون، وشركائه السنة في رئاسة الحكومة. ذهب سامي الصلح بلبنانية رياض إلى مستويات جديدة كلفته حرق منزله خلال أحداث ثورة 1958 التي اندلعت بدفع من الناصرية الصاعدة آنذاك ضد «الخيارات العميلة للبنان».

وحين حل اللواء فؤاد شهاب مكان شمعون، رئيساً للجمهورية، كانت الحقبة إيذاناً بموجة دولية جديدة تتشكل في ضوئها وبالتفاعل معها مدرسة جديدة من الزعامة السنية في لبنان، رافعتها الناصرية. «اللبنانويون» من أمثال صائب سلام سيجدون في هذه الموجة تهديداً لمرتكزات الميثاق الوطني، ولهوية البلد اليافع، كما للمنجز الاقتصادي الذي شهدته الحقبة الشمعونية مستفيدة من موجات التأميم في المنطقة وهروب رؤوس الأموال إلى المأوى الليبرالي الاقتصادي في لبنان.

شهدت الستينات نزاعاً بين مدرستين اختصرهما صائب سلام، يميناً، ورشيد كرامي يساراً، وكانت كل من المدرستين ترجمة وصدى لمناخ المنازعة العربية العربية بين مصر الناصرية والنظام العربي المحافظ الذي تقوده وتعبر عنه الرياض، بمثل ما استضافت صحافة بيروت المبهرة حينها هذه المنازعة على صفحات صحفها ومجلاتها.

الطعنة التي تلقتها «اللبنانوية» نهاية الخمسينات، وظلت تنزف جراءها طوال عقد الستينات، تلقت في خواتيم هذا العقد أختها الأحد والأكثر إيلاماً عبر توقيع اتفاق القاهرة عام 1969 الذي شرع عمل «الفدائيين الفلسطينيين» من لبنان، ومهد لكل الخراب اللاحق والمستمر حتى اليوم. ولئن تزامن توقيع «اتفاق القاهرة» مع وفاة عبد الناصر بفارق عشرة أشهر، ورث عرفات اللحظة الناصرية في لبنان، فيما كان حافظ الأسد يتهيأ للإمساك بسوريا مطلع عام 1971 بعد الحركة التصحيحية خريف عام 1970.

شكلت العرفاتية، بعد الناصرية، والانتداب، الموجة الرابعة التي منحت سنة لبنان منصة للدور السياسي الذي قادهم فيه هذه المرة الدرزي كمال جنبلاط، فكان البديل الموضوعي لزعامة سنية لم يكتمل نصابها. وتلقى اليمين السني المزيد من الضربات، حيث إن النزاع بين صائب سلام وكمال جنبلاط سيسجل في تاريخ الأدبيات السياسية اللبنانية كواحد من أشرس فصول الحرب الكلامية بين زعيمين سياسيين. ولم ينقضِ ثلثا عقد السبعينات حتى خسر السنة «زعيمهم» الدرزي كمال جنبلاط الذي اغتيل في آذار 1977، تلاه تغييب الأمام موسى الصدر عام 1978، الذي استعار هو الآخر مفردات المارونية السياسية لبناء خطابه اللبناني كواجهة لتوحيد الطائفة الشيعية تحت قيادته.

بتعثر كثير، ودماء أكثر، ورث حافظ الأسد، ياسر عرفات، الخارج من لبنان بعد اجتياح 1982، تلاه اغتيال الرئيس بشير الجميل الذي حملته الموجة الإسرائيلية إلى الرئاسة، لينتخب من دون أن يحكم. الموجة الأسدية في نسختها الأولى في الثمانينات فتحت أبواب الجحيم على السنة، وشهدت انقلاب الميليشيات على نظام 1943، اختار صائب سلام المنفى عام 1985 بعد أن حاول إبان الاجتياح أن ينقذ بيروت من عناد عرفات وجلافة أريئيل شارون وفشل. وقتل من قتل سنياً. ناظم القادري. الشيخ صبحي الصالح. المفتي حسن خالد. الرئيس رشيد كرامي. لف السواد الطائفة المؤسسة، فيما كانت شريكتها المارونية تودع مع نهاية عهد أمين الجميل كل ما يتعلق بالجمهورية الأولى.
سينتظر السنة حتى رفيق الحريري ليصحوا من كبوة طويلة وقاسية. أطل الحريري في لحظة غروب عرفات عام 1982، من بوابة العمل الاجتماعي، ورفع السواتر الترابية من محيط بيروت، والمنح الجامعية. ثم تدرج طوال عشر سنوات في العمل السياسي من مؤتمر لوزان إلى الاتفاق الثلاثي إلى «الطائف»، وبالكثير الكثير بين هذه المحطات.
لقد شكل الدور السعودي من خلال احتضان «اتفاق الطائف» بالتفاهم الصعب مع حافظ الأسد بداية موجة خامسة (الانتداب، الناصرية، العرفاتية، الأسدية) لدور سني وزعامة سنية، ستخترق هذه المرة كل القواعد السابقة للزعامة وتعيد تشكيل دور السنة في اتفاق الطائف، وبدفع خاص من شخصية وطاقات رفيق الحريري. ومع وصول الحريري إلى رئاسة الحكومة للمرة الأولى، خريف عام 1992، بدا أن السنة على موعد مع ركوب موجة مؤاتية سورية – سعودية في لحظة واعدة بسلام بدأ يطل من مؤتمر مدريد، وفي أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي والدخول العسكري الأميركي إلى المنطقة عقب حرب تحرير الكويت.

مع كل ما يقال إن رفيق الحريري «لبنن السنة»، فإن ما فعله في الواقع هو العودة بهم إلى منابع السنية السياسية التي كانت تصارع منذ رياض الصلح إلى صائب سلام، وبينهما النبيل سامي الصلح وآخرون بدرجات أقل بدأ تعثر هذا المسار مع وفاة حافظ الأسد عام 2000، وصعود نخبة جديدة في سوريا، وتعقد الأمر أكثر مع اجتياح العراق وإسقاط صدام حسين، وما مضى إلا وقت قليل حتى سقط رفيق الحريري شهيداً.

لا مشروع الآن يمكن لسنة لبنان الاندماج فيه. ولا موجة مؤاتية ترفعهم من واقع يشبه واقع الثمانينات الأسود. فالمشروع الوحيد المتاح هو مشروع التطبيع من إسرائيل الذي تتبناه مباشرة أو مواربة كتلة سنية سياسية وشعبية عريضة ومتنامية، وهذا دونه درس بسيط:

لا يستطيع لبنان ذلك قبل سوريا. هذا درس بسيط كلف رياض الصلح حياته.
استقل لبنان قبل سوريا فظل يدفع أثمان «الاستقلال المبكر» إلى اليوم، ومثل ذلك لو قرر تبني خيار «السلام المبكر» (دعك أنه خيار غير واقعي في ظل ميزان القوى).
هي حقبة جديدة من حقبات الانتظار الصعب، ولعبة قياس الموج الآتي.