يقول الرئيس سعد الحريري في أوساطه، هذه الأيام، إنّه لم يخرج من اللعبة إلّا بعدما ذاق طعم الإحباط تماماً، وأدرك أنّه لا يستطيع أن يفعل شيئاً. أكثر من ذلك، هو يعتقد أنّ أياً كان، في موقع رئاسة الحكومة، لن يستطيع القيام بشيء للإنقاذ. فما فعلَه هو كان أقصى الممكن، وحجم المشكلة بات أكبر من الجميع.
في بيئة تيار «المستقبل»، والقواعد السُنّية عموماً، يجري حراكٌ تحت عنوان: أين موقع الطائفة اليوم، وما مستقبله؟
فخروج الحريري من المسرح لا يشبه خروجه في مراحل سابقة، بما فيها ذاك الذي حصل في العام 2011. وهو يعبِّر هذه المرَّة عن تحدّيات تُعتبر الأولى من نوعها، وتتعلّق بالمعادلات الميثاقية داخل التركيبة اللبنانية.
يَعتبر خصوم الحريري، من داخل الطائفة، أنّه هو نفسُه ساهم في إيصالها الى هذا الموقع من الإرباك والضياع، بإبرامه صفقة سلطوية مع أقوياء الشيعة. وهذه الصفقة تمَّ إمرارها على مستويين: معهم مباشرةً، ومن خلال «الوسطاء» المسيحيين الذين كانوا أيضاً يفتّشون عن تغطية لمكاسبهم.
ويقول هؤلاء الخصوم، إنّهم يتفهّمون الضغوط التي تعرَّض لها الحريري ودفعته إلى إبرام صفقة. لكنهم يعتقدون أنّه ذهب أبعد مما يريده الآخرون، وسمح لهم باستثمار جزء كبير من رصيد الحريرية والطائفة، وأعطاهم أكثر مما يطلبون.
كما أنّ «الوسطاء» المسيحيين، الذين كان دورهم أساسياً في «ترغيب» الحريري في الصفقة، يتحمّلون المسؤولية أيضاً عن إرباك المسيحيين اليوم وإضعاف دورهم ميثاقياً، وتالياً تعريض البلد للخطر.
طبعاً، يدافع الحريري عن سلوكياته السياسية، ويرفض هذا «الاتهام». ويذكّر بأنّ الخلل في توازن القوى هو ما أعاق حركته. ويتحدّى أياً كان، داخل الطائفة، أن يعثر على «المعادلة المستحيلة» التي تسمح بتكريس حضور الطائفة في الدولة والحياة السياسية، أي بدورٍ فاعل لرئاسة الحكومة، من دون الاضطرار إلى المساومات وتقديم التنازلات.
ويوحي الواقع السنّي اليوم بالارتباك، على أبواب مرحلة حافلة باستحقاقات حاسمة. فالمأزق الذي تعيشه الحكومة يُضعف قدرات رئيسها السنّي، خصوصاً في اللحظة التي سيتقرّر فيها مصير الانتخابات النيابية والرئاسية. وغياب الحريري عن الساحة يستثير إشكالات داخل التيار وبيئته سبق أن عمل الرجل على معالجتها في مرحلة سابقة.
لكن الخطِر في الموضوع هو التحذير الذي يطلقه محلّلون من مغبة انزلاق لبنان في المنحدر السياسي. ويرى بعضهم أنّ الدينامية التي يبثها «حزب الله» في بيئته الشيعية ستقود في النهاية إما إلى السيطرة الكاملة على البلد، وهذا أمر صعب التحقّق واقعياً، وإما إلى خلق واقع تَفكُّكي وصِدامي يرتدي طابعاً سياسياً وطائفياً ومذهبياً. وفي الحالين، سيعني ذلك سقوط لبنان «القديم» الذي قام على ثنائية مارونية- سُنّية في شكل أساسي.
في رأي هؤلاء، أنّ اهتزاز الواقع السنّي سيضرب صورة الدولة، لأنّ الدولة هي الركيزة لدى السُنّة. وعلى رغم كون السنَّة الطائفة الأكبر عددياً، وعلى رغم أنّهم يحظون تقليدياً بدعم المحيط العربي الواسع، فإنّهم لم ينشئوا ميليشيات خاصة بهم خلال الحرب. ومع أنّهم دعموا السلاح الفلسطيني في بدايات الحرب، فإنّهم لم يتشكّلوا عسكرياً.
وكما أنّ السنّة هم ركيزة الدولة، فالمسيحيون هم ركيزة الكيان الذي كانوا أساساً في إنشائه، العام 1920. ولذلك أيضاً، عندما يصاب اليوم دور المسيحيين بالإرباك أو الضعف، يصاب الكيان في الصميم.
وعلى هذا الأساس، تصبح الدينامية الشيعية هي التحدّي الأساسي لرسم مستقبل البلد، وهي تتأرجح بين نموذجين:
1- نموذج شيعة العراق الذين اختاروا بغالبيتهم تحالفاً عقلانياً مع إيران، ينطلق من الولاء لمرجعيتهم الدينية الوطنية في النجف، ويراعي المصالح مع العرب، فصاروا ضمانة للدولة والكيان العراقيين.
2- النموذج الذي يُراد لشيعة لبنان، أي الحضانة الإيرانية الكاملة، سياسياً ودينياً وعسكرياً واجتماعياً وثقافياً، وجعل لبنان رأس حربة في المواجهات الإقليمية التي تخوضها إيران. وهذا التموضع من شأنه أن يولد حالةً صراعية تعرّض الدولة والكيان للخطر.
يعني ذلك، أنّ المرحلة الآتية ستنطوي على مخاطر جدّية على الدولة، بل على الكيان. والعام 2022 سيكون حسّاساً في تحديد اتجاهات الأزمة والاستراتيجيات التي ستعتمدها الطوائف. فهل ينفجر الصراع الداخلي على مداه، بأبعاده الطائفية والمذهبية، أم يسارع المعنيون إلى تطويق النار قبل أن تنتشر وتأكل الجميع؟
على الأرجح، الكلمة ستبقى للقوى الخارجية. فهي التي ستتكفّل برسم الاتجاهات للحلفاء والوكلاء في لبنان. ومفاوضات فيينا أحد مفاصلها الأساسية.