قبل وصوله الى بيروت بساعات تبلغ رئيس الحكومة السابق سعد الحريري رسالته الاولى من رئيس مجلس النواب نبيه بري بضرورة الترشح للانتخابات النيابية، لأهمية ذلك وانعكاساته السلبية في حال لم يحصل على خريطة البرلمان. جاء ذلك فيما الحريري يتهيأ لحسم موقفه النهائي من المشاركة في الانتخابات النيابية. كأن بري تهيّب الموقف واستحقها بعدما دقت ساعة الحسم عند الحريري. وكان بري ارسل موفده الخاص الى الحريري مستبقاً وصوله الى بيروت ليقف على حقيقة ما يشاع عن عدم رغبته بالمشاركة في الاستحقاق الانتخابي ترشحاً او انتخاباً. وبتكليف من بري تحدث معه مجدداً النائب علي حسن خليل لاستيضاح الموقف اولاً وإظهار السلبيات من الايجابيات في الحالتين، وايصال رسالة مفادها رغبة بري بمشاركة “المستقبل” في الانتخابات النيابية ترشحاً وانتخاباً لما يمثله هذا التيار وزعيمه. ليكون الجواب ان القرار لا يزال مرهوناً بدعوة الهيئات الناخبة، وحين صدرت الدعوة صار الحريري ملزماً بحسم موقفه بعدما تعالت اصوات المستفسرين من حوله، ولو ان الكفة تميل الى الاحجام عن المشاركة.
بعد طول غياب يعود الحريري الى بيروت ليمضي في ربوعها بضعة أيام يقضيها في اجتماعات مع نواب كتلته النيابية ومنسقي المناطق في تيار “المستقبل” ومع عمته النائبة بهية الحريري، لدراسة الموقف انطلاقاً من المعطيات الميدانية والتبدلات السياسية والامور المالية، وما الى ذلك من تفاصيل لها تأثيرها على سير المعركة الانتخابية. ووفق ما أبلغ المقربين فان قراره النهائي سيعلن بعد هذه الاجتماعات والذين استشفوا منه نيته بعدم المشاركة في الانتخابات النيابية للعام 2022 على المستوى الشخصي وعلى مستوى التيار، اللهم الا اذا خرجت النقاشات في لبنان بما يملي عليه اعادة مراجعة حساباته لصالح المشاركة.
كان امام الحريري ثلاثة خيارات لاتخاذ واحد منها: إما الترشح على رأس لائحة وازنة وهذا مستبعد، أو عدم الترشح والاكتفاء بترشيح شخصيات من تيار “المستقبل” وهذا ايضاً خيار مستبعد بنسبة كبيرة، او لا يترشح ولا يرشح احداً من قبله مباشرة، وترك كل مرشح من تياره يريد خوض المعركة يتدبّر امره من دون ان يتخلف عن دعم الرموز الكبرى في حال قررت خوض المعركة في غيابه.
ثمانية أسباب يرددها الحريري لتبرير عدم ترشيحه منها الداخلي ومنها الخارجي. للحريري حساباته ومنطقه في مقاربة موضوع الانتخابات هذه الدورة. اختلفت ظروفه عن الماضي، مالياً وسياسياً، وساءت علاقته مع المملكة السعودية الى حد القطيعة في وقت استضافته دولة الامارات على سبيل تسوية اموره المالية وفتح صفحة جديدة في حياته المهنية، تمهيداً لتسديد المتوجب عليه من ديون للسعودية وغيرها. مجرد وجوده في دولة الامارات يعني ان الحريري قد يبتعد عن الحياة السياسية مباشرة ذلك ان الامارات ليست فرنسا لتستوعب دوره كسياسي وعلاقته مع السعودية لم تتحسن بعد. هذا من دون ان ننسى ان تيار “المستقبل” بوضعه الداخلي قد لا يكون مستعداً لدخول المعترك الانتخابي وقد اثرت الازمة الاقتصادية على علاقته مع كوادره وجمهوره في المناطق. كل المنسقيات تشكو غياب التمويل والادارة واقفال باب المساعدات، هذا فضلاً عن الخلافات الداخلية التي مني بها التيار في اكثر من منطقة. خطأ الحريري هنا انه في كل مرة يتخلّف عن اعادة ترتيب بيته الداخلي فيكتفي بعدد محدود من التشكيلات الصورية، التي لا يكون لها وقعها على مستوى فعالية التيار وثقله في المناطق تماماً مثلما فعل في ايامه الاخيرة. يشكو المستقبليون من غياب زعيمهم وضيق احوالهم وتعدد المرجعيات. يجري ذلك فيما لا يزال تيار “المستقبل” هو التيار الاكثر تمثيلاً للسنة في لبنان وسعد الحريري هو الاقرب الى السنة من كثيرين غيره حاولوا ملء الفراغ ولم ينجحوا. حتى السعودية لم تنجح في عملية البحث عن بديل للحريري ولذا فهي لم تفتح ابوابها لاستقبال زعيم بعده لان الامتحان ليس سهلاً.
وإذا خرج الحريري بقراره النهائي عدم المشاركة سيكون اول المتأثرين بغيابه عن المعركة الى بري رئيس “الحزب الاشتراكي” وليد جنبلاط، وسيكون البديل مجموعة شخصيات سنية لا تلتقي تحت قيادة مايسترو واحد، وهذا مصدر قلق بري الذي تجمعه مع الحريري حكاية تاريخية بدأت بالرئيس الشهيد رفيق الحريري ولا تنتهي معه، وهو الذي فعل المستحيل لاعادته الى رئاسة السلطة التنفيذية وغفر له ذنوبه يوم خرج على صداقته واخطأ في حساباته السياسية. مسألة عدم وجود الحريري تحت قبة برلمان يرأسه بري تعني ضياع البوصلة السنية بالنسبة الى بري وغياب المونة على السنة برلمانياً، أما بالنسبة لجنبلاط فيعني غياب الحريري خلطاً خطيراً للاوراق النيابية وفي نسج التحالفات فكيف سيتصرف في البقاع الغربي وفي بيروت والشوف. اما “القوات اللبنانية” فهي التي تمني النفس بوراثة مقاعد السنة حيث تلتقي معهم ولا تتأثر بغياب الحريري طالما التحالف معه غير محسوم بعد.
صورة ضبابية قد تصبح اكثر قساوة في حال انكفأ الحريري عن خوض الانتخابات، خاصة وانه الى ان يثبت العكس فهو لا يزال الزعيم السني الاول باعتراف خصومه قبل الاصدقاء. فهل سيبقى الحريري على قراره بعدم الترشح وتياره ام ان النقاشات الداخلية ومونة بري وجنبلاط و”حزب الله” ستنجح في ثنيه، وماذا عن ضماناته الخارجية والتحالفات؟ اسئلة قيد النقاش والجواب عليها رهن عودته المتوقعة قريباً الا اذا استجد جديد.