بعودة زعيم تيار «المستقبل» سعد الحريري أمس، لا شك أن حجراً رمي في المياه الراكدة للمعركة الانتخابية.
بقدر انتظار حلفائه أو الذين هم مشاريع حلفاء انتخابيين لتيار الحريرية السياسية، أو أصدقائه بالسياسة، هذه العودة لرسم خريطة المنازلات التي يفترض أن تحصل في الانتخابات النيابية المقبلة، فإن خصومه ومنافسيه أيضاً، كانوا أكثر انتظاراً لظهوره على المسرح السياسي مجدداً، بعضهم من أجل السعي إلى الإفادة مما أشيع عن نيته العزوف عن الترشح، وبعضهم الآخر من أجل اتخاذ القرار بالترشح بناء أم لا بناء على ما سيصدر عنه من قرار نهائي، والبعض الثالث من أجل صوغ الخطاب الانتخابي الذي يمكن أن يفيدهم في استقطاب بعض الجمهور السني، فضلاً عن أن بعض هؤلاء الخصوم الذين توقعوا وتمنوا انتهاء حياته السياسية، مارس الرياء حياله بالعودة إلى مغازلته لأهداف تتعلق فقط بابتزاز حلفائهم.
وبصرف النظر عما سينتهي إليه القرار الذي سيعلنه الحريري بعد سلسلة اللقاءات التي سيعقدها سواء على المستوى الوطني أو على صعيد تياره وكتلته النيابية وحلفائه الأقربين والفاعليات الرئيسة في الطائفة السنية، فإن من حسنات مرحلة الأشهر القليلة السابقة من الغموض والتسريبات حول وجود توجه لدى الحريري بعزوفه عن الترشح، أن هذا المناخ كشف توجهات بعض الفرقاء حياله وحيال تياره.
سواء شملت التسريبات أنه سيعزف حتى عن خوض تياره الانتخابات بمرشحين تسميهم قيادة «المستقبل»، أو أن من سيرشحون أنفسهم من التيار أو من المقربين منه، سيقومون بذلك بشكل فردي ومن دون انتظار إعلان الحريري دعمه لهم وخوضه معركتهم، فإن التشويق الذي رافق كل ذلك من باب التساؤل عن الخيارات التي سيمضي بها، كان بحد ذاته نوعاً من الاستفتاء لثقل الحريرية السياسية السياسي والانتخابي، رغم الخسائر التي منيت بها كسائر الأحزاب من جمهورها إثر انتفاضة 17 تشرين 2019، وللدور الذي يمكن أن تلعبه في مستقبل الحياة السياسية اللبنانية، في ظل تشعبات الأزمة الخانقة التي ضربت البلد سياسياً واقتصادياً ومالياً.
الذين سبق أن زاروا زعيم «المستقبل» في الأسابيع الماضية عادوا بانطباع أنه ليس متفائلاً بوضع البلد بفعل استمرار الصراع الإقليمي وأخذ لبنان نحو المحور الإيراني، وأن المعادلة الدولية لا توحي بأن توجهات القوى الدولية الكبرى تساعد على إخراج لبنان من دائرة الهيمنة الإيرانية، في ظل استمرار الضعف العربي في مواجهة هجمة طهران الإقليمية. بل أن بعضهم لم يخف شكوكه في ان الفريق الحاكم الحالي أي «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» يريدان أن تحصل الانتخابات النيابية في شكل يغني عن الحديث حول المشاركة فيها. وفي حين كان الحريري ربط عودته بصدور مرسوم دعوة الهيئات الناخبة وتحديد موعد عملية الاقتراع، فإنه عاد وأخّر هذه العودة زهاء أسبوعين وأعطى إشارات بأن ميله للعزوف ما زال قائماً، وسط تسريبات أخرى بأنه فاتح عواصم صديقة بتوجهه، منها باريس وواشنطن.
يراهن بعض مريدي الحريري على أن يعدل من توجهه هذا بعد انتهاء مشاوراته ولقاءاته مع الشخصيات السياسية كافة، ومع قيادة «المستقبل» ونوابه وقادة الطائفة لأسباب عديدة. أولاً لأن انكفاءه عن الانتخابات يمثل نكسة سياسية لها ما بعدها. والحسابات التي تؤدي إلى قرار في شأنها ليست ملكه لوحده بل هي تخص تنظيماً سياسياً واسع الانتشار تحمل معه إرث الرئيس الشهيد رفيق الحريري، خصوصاً أن العديد من قيادات ورموز جمهور الحريرية السياسية رافقه منذ العام 2005 وضحى بعض هؤلاء إلى جانبه، واستشهد من هؤلاء الرموز من استشهد.
يستند المراهنون على عودة الحريري عن ميله إلى العزوف إلى أن شخصيات سياسية وازنة لا ترى أنه خيار صائب لأنها ستفتقد إلى الحضور السياسي في المعادلة السياسية والطائفية في البلد، من زاوية الخشية من أن يملأ الفراغ الذي يمكنه أن يتركه غياب رمزٍ للاعتدال السني، خليط من القوى بدءاً بـ»حزب الله» مروراً بنمو التطرف السني، انتهاء بالمتسلقين على سلم السياسة اللبنانية التي تشهد تراجعاً في قماشة المتعاطين بالشأن العام… وهي أسباب من بين أخرى عديدة تجعل زعامات مثل رئيس البرلمان نبيه بري ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، وحتى رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي تصاعدت الخلافات المستقبلية معه أخيراً، غير مرتاحين لانكفاء زعيم «المستقبل». وعزوف الرئيس تمام سلام والمعلومات عن نية الرئيس نجيب ميقاتي الامتناع عن خوض الانتخابات وكذلك الرئيس فؤاد السنيورة يعزز الحجج المذكورة.