عندما تم تأليف حكومة الرئيس حسان دياب، ساد توقّعان: الاول، تبنّاه الرئيس سعد الحريري بقوله إنّ الحكومة ستعيش ما بين الشهرين الى 6 أشهر. في مقابل توقّع معاكس لـ»حزب الله» على لسان وفيق صفا الذي ردّد أمام الجميع بأنّ هذه الحكومة ستعيش الى نهاية العهد. تَحقّقَ تَوقّع الحريري ليعود ويفرض نفسه مرشحاً وحيداً لرئاسة الحكومة، والأهم بدعم كامل لا بل بحماسة من الثنائي الشيعي.
وفي الواقع، إنّ الثنائي الشيعي كان قد اختلف في نظرته حيال استمرار حكومة دياب. فـ»حزب الله» جاهَد حتى اللحظة الاخيرة لعدم سقوط الحكومة التي يتمتع فيها بنفوذ واسع، فيما الرئيس نبيه بري، الذي لم «يهضم» يوماً وصول دياب الى رئاسة الحكومة، نفذ سريعاً من الفجوة التي أحدَثها خطأً دياب، وعاجَل الحكومة بالضربة القاضية.
يوم السبت الماضي كان ثقل الانفجار المروع الذي هدم مرفأ بيروت وقسماً حيوياً من العاصمة يُرخي بقوة على مكاتب السرايا الحكومية التي تضررت هي ايضاً من هول الانفجار. وكان دياب، الذي يتابع الغضب الهائل للناس والذي انفجر في الشارع، يسمع الصيحات التي طالبت باستقالة كل رموز السلطة بدءاً من رئيس الجمهورية ومروراً بالمجلس النيابي وانتهاء بالحكومة. والأهم انه كان قد تابع جولة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في بيروت، وكلامه في الجميزة وسط الحشود الغاضبة الذي حمل تأنيباً قاسياً ومُهيناً لفساد المسؤولين اللبنانيين، وكلامه في قصر الصنوبر الذي تضمّن دعوة لحكومة سياسية، فاندفع من دون تنسيق مع أحد الى إعلان طَرحه الانتخابات المبكرة في غضون شهرين. وهو أرادَ بذلك أولاً، إحداث خرق في الجدار الاسود الذي بات أمامه. وثانياً، استباق اي تغيير حكومي وحفظ ماء وجهه بعد ارتيابه من كلام ماكرون حول وجود شيء ما يجري التحضير له في الكواليس. غضب «حزب الله» لأنّ الذهاب الى انتخابات نيابية مبكرة ستعني خسارته الغالبية في مجلس النواب، بسبب التراجع الشعبي الكبير لحلفائه وعلى رأسهم «التيار الوطني الحر».
ويوم الاحد، وخلال الجلسة الوزارية التي ترأسها دياب في السرايا الحكومية، لم يكن في وارد الاستقالة. بدأ الجلسة بأن سأل الوزراء رأيهم في ما يحصل. وحصل نقاش بين الوزراء حيث تمسّك عماد حب الله بعدم الاستقالة وضرورة تَحمّل «مسؤولياتنا امام هذه الجريمة». فيما ارتأى وزراء آخرون وجوب الاستقالة، مثل زينة عكر وغازي وزني وراوول نعمة. وهنا التفت وزني الى نعمة وقال له ممازحاً: «هذه المرة الاولى التي نتّفق فيها معاً على موقف».
وانتهى الاجتماع على أساس انّ الاستقالة إمّا تكون جماعية لكل وزراء الحكومة أو لا تكون. وفي الواقع كان دياب يريد ان يتجنّب سقوطه من خلال استقالة 7 وزراء.
لكن يوم الاحد كانت الامور قد انقلبت رأساً على عقب، فرئيس مجلس النواب استغلّ ثغرة «الدعوة الى انتخابات مبكرة» واندفع في اتجاه إسقاط الحكومة بعد «شَرشَحتها» في المجلس النيابي. لكنّ «حزب الله»، وحتى رئيس الجمهورية، اللذين سارَعا الى التواصل مع بري لإيجاد المخرج، لم ينجحا كَون حجّة بري أصبحت أقوى: «لا تريدون انتخابات مبكرة فكيف لنا ان نستمر في الحكومة بعد ما حصل؟».
وطُلب من دياب التراجع عن دعوته مع تقديم اعتذار، وفق ما طلب بري. في هذا الوقت كان الوزراء قد بدأوا يلمّحون الى استقالات منفردة بسبب ضغوط الشارع، فكان أن حسم دياب أمره بالاستقالة.
وفي جلسة إعلان استقالة الحكومة، بادرَ دياب الوزراء بالقول: هذه آخر جلسة للحكومة. أي انّ الاستقالة حُسمت. لكن الأهمّ في هذه الجلسة القرارات الـ 16 التي اتخذت، وأبرزها قرار الوضع بالتصرّف للموظفين الذين سيطاولهم التحقيق. وهذا البند حازَ جدلاً واسعاً بين منطقين، الاول، والذي طالبَ به وزراء الثنائي الشيعي، دعا الى إقالة هؤلاء، في مقابل رأي ثانٍ تَمسّك بوضعهم في التصرف فقط، والذي نادى به الوزراء المحسوبون على جبران باسيل. وعندما احتدم النقاش تدخّل المدير العام لرئاسة الجمهورية طوني شقير، والذي يحضر عادة اجتماعات مجلس الوزراء، قائلاً إنه «لا يجوز اتخاذ قرارات بالاقالة في غياب رئيس الجمهورية».
وفُهم من كلام شقير انّ رئيس الجمهورية متمسّك بعدم حصول الاقالة، ذلك أنّ باسيل كان قد اشتكى في المدة الاخيرة أمام «حزب الله»، ولا سيما بعد تصاعد خلافه مع وزير الخارجية السابق ناصيف حتي، بأنه لم يعد يستطيع ضَبط الوزراء المحسوبين عليه. فالخلافات كانت تتكاثر بين باسيل من جهة وعدرا وغجر ونجم من جهة ثانية. لكن كل ذلك أصبح من الماضي، فاستقالة الحكومة التي فاجأت الجميع حتى العاصمة الفرنسية، دفعت بكل الاطراف الى الدخول في ورشة تأليف حكومة جديدة مع تشديد باريس كما واشنطن على ضرورة عدم إضاعة الوقت لاستباق انهيار الدولة بكاملها.
ولم يعد سراً أنّ الثنائي الشيعي متحمّس ومتمسّك بعودة سعد الحريري. وإنّ طرح اسم نواف سلام وإعلان باسيل تأييده له إنما يأتي في اطار الضغط على الحريري لدفعه الى تليين شروطه التي ما زال يتمسّك بها، والتي تعارض حكومة سياسية.
وتبدو باريس بدورها موافقة على الاستماع لمطالب مختلف الاطراف اللبنانية بما فيها الثنائي الشيعي، خصوصاً بعدما أنهَت اللجنة العسكرية المكلفة التحقيق في انفجار المرفأ تقريرها، والذي اطلعت عليه باريس. وجاء في هذا التقرير أنه تمّ فحص التراب ولم تظهر أي آثار للمتفجرات، أي انّ رواية القصف الجوي او انفجار قنبلة هي رواية غير صحيحة. كذلك جاء في التقرير انّ حريق المفرقعات هو الذي أدّى الى رفع درجة الحرارة، وبالتالي الى تفجير الامونيوم. وكذلك فإنّ حريق المفرقعات حصلَ بسبب 4 اشخاص كانوا يقومون بالتلحيم، وهؤلاء ما زالوا موقوفين رهن التحقيق.
وفي التقرير أيضاً أنه لو كان هنالك صاروخ، لكان حصل التفجير من دون أن يسبقه حريق.
وفي التقرير ايضاً وأيضاً انّ مديرية المخابرات في الجيش اللبناني، والتي ليس لديها اي سلطة على الاعمال داخل المرفأ، كانت قد رفعت تقارير عدة للمسؤولين الكبار تؤكد أنّ هذه المواد خطرة ويجب التخلص منها، ولا يمكن للجيش خَزنها.
لذلك، أبدَت باريس إصرارها على ضرورة إنجاز تشكيل الحكومة في أسرع وقت ممكن، لأنّ الظروف لا تحتمل ترف إضاعة الوقت. وهي بَدت موافقة لتسمية الرئيس سعد الحريري، ووضعت اسم نواف سلام جانباً. ذلك أنها لمسَت بوضوح انّ الهدف من طرح اسم نواف سلام، وخصوصاً تأييد باسيل له، إنما يأتي في اطار الضغط نفسياً على الحريري لدفعه الى خَفض سقف شروطه.
وإزاء ذلك، بات المشهد الحكومي أمام احتمالات ثلاثة:
الاول، تشكيل حكومة برئاسة الحريري ومؤلفة من اختصاصيين، وربما يمكن تطوير الصيغة بحيث يكونون بلون حزبي. وهذه الصيغة لا يعترض عليها الحريري، ولكن يرفضها رئيس الجمهورية.
والثاني، حكومة برئاسة الحريري ولكن تضمّ حزبيين من الصف الأول، وهو ما يتيح تلبية شروط رئيس الجمهورية من ناحية توزير جبران باسيل في وزارة الخارجية، واحتفاظ «التيار الوطني الحر» بحقيبة الطاقة.
ولكن الحريري يرفض بالمطلق هذه الصيغة، مع تحذيره من أنّ الشارع سينتفض مجدداً وعلى قاعدة ان لا شيء تغير.
والثالث، تشكيل حكومة من السياسيين من الصف الاول، ولكن برئاسة شخصية سياسية يسمّيها الحريري بالتفاهم مع رئيس الجمهورية. لكنّ الحريري يرفض ايضاً تسمية اي شخص آخر.
ولفتَ ما ذكرته «دير شبيغل» الالمانية، والمعروفة برصانتها، حين تطرقت الى الوضع في لبنان، حيث قالت: «النُخب الفاسدة تعمل للحفاظ على السلطة رغم كل ما حصل، و»حزب الله» يرفض انتخابات مبكرة أيّاً كان الثمن».