ليس في السياسة سوى إنخراط كامل او إعتزال. ولا شيء اسمه “تعليق العمل في الحياة السياسية”. لكن الرئيس سعد الحريري إختار ذلك في مرحلة مصيرية وخطر وجودي على لبنان. خيار، ليس فقط لدوره كزعيم تيار واسع في كل المناطق وطائفة شريكة في تأسيس الكيان وذات وزن كبير في التوازن السياسي، بل أيضاً لـ”تيار المستقبل” الذي ورثه قبل 17 عاماً من والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري. فهو أخذ وقته وراجع نفسه وشاور كثيرين لإتخاذ القرار المناسب، فتوصل الى القرار غير المناسب لتياره وطائفته وحلفائه ولبنان، وإن رآه هو المناسب له. والأسباب التي عدّدها ودفعته الى هذا القرار مهمة وحقيقية، لكنها يجب أن تدفع الى الإصرار على المواجهة وعدم ترك الميدان. والظاهر أن لديه أسباباً أخرى ينكتم عليها أقوى في نظره من الأسباب الداخلية والخارجية التي ذكرها.
ذلك أن “القنبلة السياسية” الكبيرة التي فجّرها الحريري ستصل شظاياها الى أمكنة عدة وتخلق مضاعفات وطنية وسياسية وإنتخابية. فلا “تيار المستقبل”يمكن وضعه في “البراد” ثم إستعادته في وقت آخر. ولا هو جمعية إجتماعية أو شركة. ومن المبكر تصور سيناريوات ما بعد “التعليق”: من مستقبل تيار المستقبل الى “الإعتدال” الذي يمثله في مناخ العصبيات الطائفية والمذهبية المستنفرة، كما في إغراءات التطرف الإرهابي على طريقة داعش والقاعدة. ومن مواقع الحلفاء والأصدقاء وحساباتهم والمواقف الى المسار الخطير لأخذ لبنان الى “جبهة المقاومة” بقيادة إيران وتغيير هويته. لكن ردود الفعل الأولية بدت مزيجاً من الحزن والغضب والخوف والتحذير من الإستسلام. والكل واثق من أن الخارج من اللعبة السياسية يبقى داخل المشكلة الوطنية.
يقول المثل الفرنسي: “خطوة الى الوراء من أجل قفزة أفضل”. ولا أحد يعرف إن كان قرار الحريري من هذا النوع. فمن الصعب تصور “تيار المستقبل” يتبخر، وفيه ما فيه من شخصيات وكوادر وعصب شبابي. لكن الأصعب هو أن تستمر هيمنة حزب من مذهب واحد على بلد من 18 طائفة، وأن يكون المستقبل له، وليس للتوازن السياسي والوزن الوطني لبقية الطوائف والحراك الشعبي العابر للطوائف. وإذا كانت الخيارات الخاطئة التي قادت الى الوضع المزري الحالي وإعتراف الرئيس الحريري بأنه إتخذها عن حسن نية لمنع الحرب الأهلية، فإن الخيار الخاطئ الأكبر هو معاقبة “تيار المستقبل”والقوى السيادية الرافضة للهيمنة.
هناك بالطبع من يرى فرصة للتعددية في الطائفة السنية بعد عقود من الزعامة الحريرية الأحادية، كما عند المسيحيين، ويتمنى عودة التعددية في بقية الطوائف. فما ضرب التعددية في النظام هو أنها صارت مجموعة أحاديات. والتسليم بأنه لا امل في إنقاذ لبنان هو أقصر الطرق لإكتمال الهيمنة.
ليت الحريري تبصّر بقول المؤرخ الإغريقي ثيوسيديدس: “الذين يفكرون في القرار الصحيح أقوى من أصحاب القوة”. والأصدقاء وحتى بعض الخصوم لا يريدون أن ينطبق عليه ما قيل عن “رجل من فاراب، عزف فأضحك ثم عزف فأبكى، ثم غاب”.