ليس عزوف سعد الحريري عن الحياة السياسية نهاية العالم. أحدَثَ صدمة في تركيبة النظام الطائفي نظراً الى تمثيله الراجح للطائفة السنية، وأربَك المنظومة التي تشاركت معه محطات متنوعة واعتبرته أحد أعمدتها. لكن الطائفة/الأمة باقية. فلا هي ستتفرّق “أيدي سبأ” ولا ستُعدَم ممثلين لها يتقاسمون جمهور “المستقبل”، أو يجمعونه على الثوابت “الحريرية” المستمدة من حدث 14 شباط، أو يخوضون في سياسات جديدة.
تلك المسحة التراجيدية في إعلان الحريري انسحابه الشامل قبيل انتخابات نيابية مفصلية يجب أن تُذكَر بتعاطف ومحبة لشخص الرئيس الحريري وتبقى “بنت ساعتها”، فلا توصل السُنة الى ما وصل إليه المسيحيون من إحباط ومقاطعة في 1992 أتاحا للانتهازيين والوصوليين وأزلام الوصاية السورية احتلال السلطة التشريعية وسائر مراكز القرار.
لسعد الحريري ظروفه السياسية والشخصية، بيد أن التبريرات التي ساقها في كلمته الوداعية غير كافية رغم وجاهتها. لذا يحق لجمهوره وسائر اللبنانيين سؤاله عن سبب أخذ تياره برمته الى مصير مجهول، في وقت تحتاج معركة استعادة السيادة ومنع سقوط لبنان نهائياً في قبضة المحور الايراني، ضمَّ جهود كل المؤمنين بـ”لبنان أولا” رغم كل المتمايزات ومهما تفشَّت الحساسيات.
لسعد الحريري كامل الحرية في تعليق مشاركته في العمل السياسي في لبنان، غير أنه مخطئ حتماً في التسليم بالعجز وتعميم الانكسار أو بتحدي المتمسكين بمشروع استعادة الدولة أنْ “فرجونا شو بيطلع منكن”، أو بالنكاية ممن توقفوا عن محضه ثقتهم ودعمهم باللجوء الى خيار “عليَّ وعلى أعدائي” و”فليحكُم حزب الله”. فمسؤوليته عن طائفة أساسية أكبر بكثير من مسؤولية رجل دولة أو سياسي عادي قرر الاستنكاف أو السقوط في ردود الفعل. ومسؤولية الطائفة المؤسسة للكيان تاريخية وتوجب تجاوز الشخصانية وتحمل عبء جماعي لإخراج لبنان من الحفرة والإرتهان.
أخذ سعد الحريري الخيار الصحيح، لكن كان أفضل حتماً لو رتَّب خروجه بما يسمح بتماسك جمهوره حول قيادات تتولى قيادة السفينة، متحلية بثقة الناس وبإرادة متابعة المسيرة التي دفع ثمنها رفيق الحريري وكل شهداء 14 آذار والتزم بتداعياتها كل لبنان، إذ إن الأزمة في أوجها وتوجب مواجهتها بخطاب واضح وحازم ينسجم مع تطلعات أكثرية اللبنانيين والعرب، مثلما تتطلب تحرر الجمهور الحريري من الحال العاطفية والانفتاح على كل الشركاء في الأهداف السياسية السيادية بعيداً عن تأثير محترفي تسميم العلاقات والنافخين في كير الإشاعات.
لا يمكن للكتلة الأكبر في الطائفة السنية إدارة الظهر لاستحقاق الانتخابات أو الذهاب إليها بلا عنوان. فهي ليست أقلية تستثمر على عقدة الإضطهاد أو تنزوي في انتظار أن يأتي الغيب بالتطورات، وفيها من القيادات والكفاءات ما يدفع الى الأمل بالتطلع الى أمام للمساهمة الفاعلة في استعادة دولة أُخذت بالقوة وبالقضم والهضم وستستعاد خطوة خطوة في كل الاستحقاقات بالخيارات الصحيحة وصلابة الموقف، مهما كانت النكسات والعقبات.