استقالة سعد الحريري من الحياة السياسية اللبنانية هي قراءة دقيقة وعميقة وحكيمة لوضع دولي مرتبك له تداعيات إقليمية عاصفة تعرض نفسها بقوة من مركز القرار في طهران على مراكز التنفيذ عند الوكلاء في بيروت وصنعاء ودمشق وبغداد وغزة.
هذا زمن الاميركي فيه غائب باختياره، والايراني يتوحش كي يبتز، والوكلاء في حصار داخل ملليمتر واحد متاح للحركة!
وليس صدفة أن إعلان سعد الحريري تجميد نشاطه السياسي ترافق مع زيارة وزير الخارجية الكويتي حاملاً قائمة شروط من عشر بنود يصعب على لبنان «عون – باسيل – نصرالله» أن يلتزم أو ينفذ حرفاً واحداً منها إلاّ في ظل «رضاء سياسي ايراني من المرشد الاعلى يعطي فيه أمراً مباشراً لرجاله في لبنان حول ما يمكن الموافقة عليه من هذه الشروط، وما يمكن تعديله، وما يجب رفضه تماماً».
وأكد لي مصدر خليجي مطلع أن قرار المرشد الذي تلقى نسخة فورية من الرسالة التي حملها وزير الخارجية الكويتي لن يبت في هذه الشروط قبل أن يحصل على نتيجة نهائية لجولات المفاوضات النووية «المتعسّرة» الآن في ڤيينا».
الامر المؤكد الذي يجب أن ننبّه إليه ان دول الخليج العربي التي حاولت في لقائها المفصلي من خلال وفد رفيع المستوى مع الرئيس «أوباما» أن تكون طرفاً في المحادثات التي أفضت الى توقيع الاتفاق النووي مع إيران.
وجاء في البيان الختامي «ان واشنطن على استعداد للعمل على وجه السرعة مع شركائها في مجلس التعاون الخليجي للردع والتصدّي لأي عدوان» وهو ما لم يحدث حتى الآن! وأن تكون طرفاً في المفاوضات مع ايران او تجعل الاميركيين يضعون ارتباطاً شرطياً في نص الاتفاق النووي بين الإفراج عن الارصدة ورفع العقوبات وبين تعهد طهران عدم التدخل في شؤون جيرانها، وما زالت لم تتخل عن هذا الطلب.
ويذكر ان ولي العهد السعودي الامير محمد بن نايف (وقتها) طالب الرئيس اوباما بأن يقوم بمبادرة حسن نوايا -على اقل تقدير- بكتابة تعهد يضمن فيه التزام ايران عدم التدخل في شؤون دول الخليج، وهو أمر رفضه الرئيس اوباما -وقتها بشدة-. كان ذلك في أيار/ مايو 2015 وركز البيان المشترك على ما اسماه «بالشراكة الاستراتيجية».
وما لم تستطع دول الخليج فرضه على ايران في الاتفاق النووي او أخيراً في لقاءات العراق والاردن مع الخبراء الايرانيين، وخلال زيارتي الشيخ نهيان بن مبارك، ثم زيارة الشيخ طحنون بن زايد لطهران، فهو ما يحاول تسويته وعرضه من خلال قناة لبنان والازمة اللبنانية.
بمعنى آخر الخليج العربي يفاوض ايران بعدم التدخل كمبدأ عام عبر البوابة اللبنانية المأزومة بشدة.
وتؤكد مصادر مطلعة ان جس النبض الخليجي عبر البوابة اللبنانية سوف تكون له تداعياته ويمكن البناء عليه سلباً او ايجاباً، بمعنى ان رد لبنان على الرسالة والشروط الخليجية سوف يوضح اذا ما كان يمكن تطبيق النموذج ذاته على صنعاء او بغداد او دمشق او غزة.
من هنا يمكن فهم القراءة العميقة لقرار سعد الحريري.
كل شيء أمامه شخصياً، مالياً، عائلياً، سنّياً، لبنانياً، إقليمياً، إيرانياً، سعودياً، فرنسياً، أميركياً يقول له «ابتعد هذا ليس زمنك، بقاؤك انتحار نهائي، ورحيلك هو الاحتمال الحكيم الوحيد الآن».
تحمّل سعد الحريري ما لا يطيق بشر لعناصر وأسباب وحسابات ليس هو صانعها وليس صاحب المصلحة بها.
تحمّل اغتيال والده، وغدر الحلفاء، وأنانية العائلة، ومعاناة انتظار المحاكمة الدولية الخاصة، وصيغة «السين – سين»، وتغير رؤية الخليج للحرب في سوريا، ثم للموقف في لبنان.
تحمّل الرجل انتهازية سياسة ماكرون وتحولاتها الجذرية تجاه المنطقة من عهد الصديق شيراك الى عهدي ساركوزي وهولاند.
تحمّل الرجل الوعود الكاذبة من المارونية السياسية للتيار الوطني و»القوات».
تحمّل الرجل أن يدخل الانتخابات البرلمانية الأخيرة بلا دعم مالي.
وتحمّل الرجل أن يكون الوحيد، أكرر الوحيد الذي استجاب لحركة شارع «ثورة 17 تشرين» ودافع عن حكومة اختصاصيين ولكن «هيات لم يتمكن».
لم يكن قرار الحريري «رفاهية فكرية» او «ابتزازاً سياسياً» او «تخلياً أخلاقياً» لكنه كان مساراً إجبارياً في اتجاه واحد لا بديل عنه». انها مسألة اكبر من الرجل او اي رجل آخر.
انها كما يقولون في الدراما الاغريقية لحظة «تطهر للبطل التراجيدي من خطايا التجربة». انها لحظة قرار إعادة الحياة لمستقبله السياسي من خلال تجميد نشاطه الحالي.
هل أخطأ الرجل؟ هو نفسه يجيب على السؤال: نعم أخطأت، لكنني لم أخطئ عن عمد بهدف الاضرار او الايذاء لمصالح بلادي وطائفتي لكنني، كثيراً ما كنت مرغماً على ابتلاع أمور تذبح مثل شفرات الحلاقة!