قوة تعليق الرئيس سعد الحريري عمله السياسي لم تحجب الفوضى الداخلية التي أحدثها قراره بين من يتحركون لوراثته سياسياً وانتخابياً. لكن، أي عنوان لمرحلة ما بعد الحريري يمكن أن يحمله هؤلاء؟
إذا كانت لكل رواية خاتمة، فقد بدت ذكرى 14 شباط كأنها خاتمة فصل من فصول الواقع السني السياسي، وهو واقع حقيقي، وإن كان بعض ما حدث في سنواته الأخيرة أشبه بوقائع الروايات. واقع تتداخل فيه تفاصيل يومية ومتشعبة عن أدوار قامت بها الطائفة السنية وقياداتها السياسية من أبواب مختلفة: من الباب العربي، ومن باب الميثاق الوطني، ومن الباب الاقتصادي، ولاحقاً من باب الحرب ومن ثم اتفاق الطائف، وصولاً إلى باب الاستقلال الثاني.
ختمت زيارة الرئيس سعد الحريري لضريح والده كل مسار التوقعات، منذ ما قبل إعلانه تعليق العمل السياسي، حول مستقبل الفريق السني، أو بالأحرى الأفرقاء السنّة. إذ إن ما قام به الحريري لم يعد يمكن تجاوزه، ليس لمجرد أنه جاء على أبواب الانتخابات النيابية، بل لأنه لا يزال يحدث ارتدادات من الصعب تخطيها في المدى القريب.
وقوف الحريري في وسط بيروت، حيث كان مشروع الحريري الأب ورهان الابن، كان معبّراً أكثر من أي خطاب سياسي. إلا أنه بدا، بالمعنى المباشر، خاتمة لمسار أعوام من الأحداث السياسية والتقلبات والتحالفات والتسويات التي انتهت بطريقة مأسوية.
من المفارقة أن بعض السياسيين مستعجلون لإنهاء المرحلة من دون النظر الى تداعياتها الداخلية، فسارعوا الى وضع الحدث وراءهم. إلا أن مرحلة ما بعد خروج الحريري من بيروت لا تزال ضبابية بالنسبة الى من ينتظرون كيف ستتوزع التركة الحريرية كي يبنوا على الشيء مقتضاه: من حلفاء الأمس، والخصوم، وحتى من داخل الطائفة التي تعرف تماماً صعوبة أن تتمكّن أي شخصية ممن يتقدمون المشهد اليوم، من أن تحظى بالزعامة والحضور الشعبي والتمويل والدعم العربي والغطاء الإقليمي والدولي، دفعة واحدة، في أيام أو أشهر قليلة. هذه المواصفات لا توجد اليوم في شخص واحد. ولن توجد في القريب العاجل.
تعيد المراجعة البديهية، بعد انقضاء الصدمة الأولى، تقويم الواقع السنّي على مستويات عدة. فالساحة السنية تقليدياً لم تشهد توحيداً للزعامة، كما حصل مع الرئيس رفيق الحريري، وإن ظلت هناك شخصيات سياسية وازنة قامت بأدوار خلال قبضه على زمام السلطة، وأحياناً كثيرة في مواجهته. لكن المشروع الاقتصادي، بعد دوره في الطائف، جعله أكثر إمساكاً بمفاصل اللعبة السياسية والسنّية، معززاً بمباركة إقليمية وعربية.
لم يورّث الحريري الأب أحداً، ولعل موته الفجائي اغتيالاً جعل ما أصبح يعرف بالحريرية السياسية واقعة وراثية لم يكن قد هيّأ أحداً لها. عملية اغتياله أسست لوراثة عائلية مختلفة عن الوراثات العائلية الأخرى. فحين ورث الحريري الابن الزعامة، أُعطيَ أكثر مما أُعطي الأب، من تعاطف إنساني وإحاطة سياسية شبه جامعة، إضافة الى احتضان عربي ودولي، وقد تكون طبيعته جعلته أقرب الى الشارع (غير السني) مما كان عليه والده. لكن خروج سعد الحريري من الوراثة السياسية بفعل فجائي، ليس كحدث إخباري، ومن غير وريث سياسي كذلك، يعيد توزيع التركة الحريرية والسنّية معاً أفقياً ومناطقياً.
لم يلغ رفيق الحريري الزعامات المناطقية والعائلية والعشائرية، إنما حجب ضوءها وحاول استيعابها تحت عباءته. ومع سعد الحريري استعادت بعض الفاعليات المناطقية دورها تدريجاً، بعضها متماهياً معه وبعضها من خارج النادي الأزرق وحلفائه. ومع التسويات التي عقدها أو خرج منها كان دور هذه القيادات يتقدم أو يتراجع.
اليوم، قد تجد بعض القوى السنّية الوقت مناسباً لاسترجاع التعددية التي كانت تتمتع بها قبل عقود، حين لم تكن هناك زعامة واحدة متفردة أو تختصر الزعامات الأخرى. إذ لم تلغ زعامة آل سلام زعامة آل الصلح أو زعامة آل كرامي والعكس صحيح، وظلت بيوتات سياسية تقليدية قائمة على مدى سنوات، من صيدا الى بيروت وعكار وطرابلس والمنية والضنية والبقاع.
ترشّح ميقاتي أم لم يترشّح فإن إطاره الطرابلسي والشمالي سيبقيه أسير لعبة مناطقية
بخلاف الثنائية الشيعية، والى حد ما «الثنائية» الدرزية، تتمتع القوى المسيحية بحيوية تعددية، ورغم سعي بعض القيادات جاهدة الى اختصارها بحزبين أو ثلاثة، إلا أنها لم تنجح في حصر الأصوات السياسية أو إقفال بيوت سياسية تقليدية أو حتى بروز أصوات سياسية جديدة. في المقلب السنّي، مما لا شك فيه أن خروج الحريري سيترك فراغاً على المستوى السياسي من الصعب تجاوزه في المدى المنظور. وفي مقابل محاولة الاستدراك المحدودة بإدارة شخصيات سنّية الأزمة المستقبلية، إلا أن الفرصة ستجعل بعض البيوت السياسية والمناطقية، ومنها ما هو قريب من المستقبل، تتسابق لتحمّل المسؤولية، بذرائع مختلفة، لاستعادة الحضور السياسي وإبراز قوتها الذاتية. وقد كان الحريري واضحاً عندما أشار الى هذه النقطة. وسيكون الطريق سالكاً لشخصيات مناطقية في القيام بدور القيادة المحلية، من دون أن تصل الطائفة السنية الى الزعامة المنشودة. ترشح الرئيس نجيب ميقاتي أم لم يترشح، فإن إطاره الطرابلسي والشمالي سيبقيه أسير لعبة مناطقية. وقيادته السياسية ستكون متأتية من ترؤسه الحكومة مجدداً بعد الانتخابات، ومن ضمن نادي رؤساء الحكومات. وهو وإن ظلّ تحت قبّة دار الفتوى، إلا أنه أقرب الى قوى الثامن من آذار، ما يجعله غير خاضع لمتطلبات المرحلة السنية الراهنة محلياً وإقليمياً.
قد يكون توزّع الزعامة السنية تشرذماً بالنسبة الى البعض، فيما يجد البعض الآخر فيها حالة انتعاش بعد مرحلة مليئة بالأحداث رفعت الطائفة السنية ومن ثم ضربتها. لكن حالة الفوضى الحالية تحتاج الى وقت كي تنضبط، وتظهر حقيقة ما ستؤول إليه أمور القوى السنية. لا دار الفتوى في وضعيتها الراهنة قادرة على أن تكون المرجعية وحدها، كما كانت حال البطريركية المارونية أيام البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، ولا التدخل العربي بأدواره من السعودية الى مصر وتركيا وقطر حدد أفق اللعبة الداخلية. وبين تزعم بيروت والحالة السنية، كما فعل الرئيس الراحل ونجله المعتزل، وبين طموحات سياسية من صيدا وطرابلس والضنية وعكار والبقاع، ربما تحتاج الحالة السنية الى عنوان سياسي للمرحلة المقبلة، بعدما أقفلت أبواب المشاريع الاقتصادية والعمرانية، وأسدلت الستارة على مرحلة المظلومية والمحكمة الدولية، وشعارات سنوات 14 آذار. وإلى الآن لا يزال هذا العنوان ضائعاً.