تكاد الشخصيات التي كان يُطلق عليها سابقاً «سُنّة 8 آذار» أن ترفع صور ولي العهد السعودي محمّد بن سلمان بدلاً من صور حلفائها. بالنسبة إليهم، ما عصي على حزب الله، فعله ببساطة الأمير الشاب. لم يحلموا يوماً بأن تُسلخ الحريرية السياسيّة عن «أمّها الحنون»، ولا أن يخرج سعد الحريري من الحياة السياسيّة. صحيح أن أحداً من هؤلاء لم يجهر بـ«التشفّي»، لكن ما يُضمره بعضهم أكثر من ذلك. بالنسبة إليهم، بات المشهد سوريالياً؛ من منعهم عن خوض الانتخابات النيابية عام 2005 بسبب حملات التخوين والتهديد، اعتكف اليوم عن الترشّح ويقود معارك تخوينيّة داخلية تجاه من قرّر الترشّح ممن كانوا يدورون في فلكه
Monetized by optAd360
رفيق الحريري الذي أتى على متن طائرة سعودية حاملاً أموالاً أغدقها مساعدات معيشيّة ومنحاً مدرسية وجامعيّة، غيّر على مدى 30 عاماً في مفاهيم الزعامة السنيّة. حلّت «كرافات» أبو بهاء مكان «أر بي جي» ابراهيم قليلات. سريعاً، ما أقفل رجل الأعمال البيوتات السياسيّة التقليديّة بمعيّة السوريين. لم تكن خسارة سليم الحص أمام غنوة جلول بأكثر من 10 آلاف صوت تفصيلاً، بل سياسة معتمدة لإقصاء كلّ الرموز السنية من حقبة ما قبل اتفاق الطائف. وعلى طريق الحريري الأب، سار الابن مستفيداً من تعاطف الشارع السني مع «ابن الشهيد» وتنامي «العداء» للنظام السوري وكل الشخصيات القريبة منه.
يأخذ الـ «Anti- مستقبل» على الحريرية السياسيّة أنها «ضربت عقيدة الطائفة السنية… من قوميّة جمال عبد الناصر ومناصرة القضيّة الفلسطينيّة وصولاً إلى «طائفة لبنان أوّلاً»، تماماً كما غيّرت النسيج الاجتماعي والاقتصادي لأهالي بيروت الذين خسر بعضهم أموالهم وعقاراتهم بفعل «سوليدير». سرعان ما خفتت قدرة المعارضين للحريري على رفع الصوت. أخفض البعض رأسه أمام «العاصفة الزرقاء»، أما من قرّر رفع الصوت فجوبه بحملات تخوين وتحريض تجلّت في إشكالات دموية في أكثر من منطقة، كتلك التي وقعت بين مناصري المستقبل ومناصري جمعية المشاريع الخيرية أو بين مناصري المستقبل ومجموعة تابعة لشاكر برجاوي في الطريق الجديدة…
كلّ ذلك، قبل أن تقفل السعودية «حنفيتها» على الحريري الذي «شمّع» مؤسساته الاجتماعيّة وأدّت مواقفه السياسيّة والتسويات التي عقدها إلى تراجع شعبيّته. لم يعد الزعيم القوي، بل تحوّل إلى واحد من أسباب ما صار عليه السنة، كما يتردّد بين بعض أنصاره حتى، من «طائفة مستضعفة». ولهؤلاء الأنصار انتقادات كثيرة على ابتعاده عن الأرض على عكس والده، وتسليمه الملفات إلى شخصيّات استفادت «على ظهره»، إضافة إلى عتب شديد على الشاب «النظيف الكفّ» الذي يحبونه لأنه ترك «الحراميي اللي حوله يسرقوه».
سقوط القطبية
هذا الواقع أدى إلى نتائج انتخابات 2018 بعد إعادة تموضع الكثير من أنصار الحريري في أحضان معارضيه. يومها، كُسرت الأحاديّة السنية التي كرّسها «أبو بهاء». صحيح أن الأكثرية بقيت في جيب الحريري، إلا أن الزعامات المناطقية عادت لـ«تُفرّخ» من جديد. حينها، لم يكن عادياً أن يفوز عبد الرحيم مراد على مرشح المستقبل، ولا أن يستعيد جهاد الصمد المقعد الذي خسره عام 2005 بفارق كبير عن منافسيه، ولا أن يكون عدنان طرابلسي القوة الأكبر في بيروت الثانية بعد الحريري…
لم «تسكر» هذه القوى بانتصارها عام 2018، بل راكمت جهودها وتسلّلت من جديد إلى جمهور «المستقبل» من دون اعتماد سياسة تصفية الحسابات السابقة. فيما البعض، كنجيب ميقاتي وفؤاد مخزومي، حاول تغيير خطابه ليتلاءم مع «ما يطلبه الجمهور». أما اليوم، ومع غياب الحريري عن المشهد وتلهّي جمهوره بفتح النار على «قدامى المستقبل»، فيكاد معارضو «التيار الأزرق» أن يرددوا: «الحمدلله اللي تحررنا». يدركون جيداً أن حملات التخوين والتصنيفات الجامدة، كتسميتهم بـ«سنة 8 آذار» أو «سنة النظام السوري» أو «السنة التابعين لحزب الله»، ستبقى موجودة، لكنهم باتوا يملكون هامشاً أكبر للتحرّك، ويؤكدون أنّهم لا يجدون صعوبة في استقطاب الشارع. شاكر برجاوي، مثلاً، الذي أقفل مكاتبه في طريق الجديدة عاد اليوم إليها، لافتاً إلى أنّه لا يجد صعوبة في عودة التواصل مع الناخبين ومن بينهم من كان يخالفه الرأي في السنوات السابقة، مشيراً إلى أنّ «بيروت تحتاج إلى استرجاع عصبها ومتابعة قضاياها».
النائب فيصل كرامي هو الآخر يعتقد أن الأبواب مفتوحة أمامه في استقطاب ناخبين جدد. هذه الإيجابية مردّها إلى «إقصائنا عن السلطة وعدم مشاركتنا في عمليات الفساد التي أوصلت لبنان إلى هذه الأزمة الاقتصادية»، ويضيف كرامي: «الشارع غاضب على المنظومة ولكن يُمكن أن يصوّت لنا على اعتبار أننا لسنا جزءاً منها». وهذا أيضاً ما تقوله جمعية المشاريع الخيريّة على لسان مرشحها في بيروت أحمد صباغ، مشدّداً على أنّه «بيننا وبين ناخبينا مشوار طويل من الثقة والشفافية في عمل مؤسساتنا»، شارحاً أنّ قوتهم التجييرية في بيروت ستتنامى في المرحلة المقبلة خصوصاً أنه «صارت لنا حرية أكبر في المونة على بعض أقرباء أنصارنا وأصدقائهم الذين كانوا ملتزمين بقرار المستقبل».
وإذا كان البعض يرى أن انكفاء الحريري عن الحياة السياسية له انعكاسات سلبية، كما يقول النائب قاسم هاشم الذي يلفت إلى أن هذا الأمر سبّب خللاً في الطائفة السنية وعلى صعيد لبنان. وهذا أيضاً ما يشدد عليه الوزير السابق حسن مراد، لافتاً إلى أنّ الطائفة تعيش إحباطاً بعد قرار الحريري، إلا أنه يرفض اختزال الطائفة بشخص واحد. في المقابل، هناك من يرى أن انسحاب رئيس المستقبل أعاد الطائفة إلى ما قبل اتفاق الطائف مع التنوّع الذي كان موجوداً فيها، وهذا يعني إعادة العمل على تشكيل خطابٍ جديد يعيد السنّة إلى مكانهم العروبي الطبيعي. ولذلك، يقول كرامي إنّ «ما تمر به الطائفة اليوم ليس إلا مخاضاً إجبارياً لتجديد الخطاب والعقليّة بعد مسارٍ من مصادرة القرار السني». تلتقي رؤية كرامي مع ما يؤكده نائب عضو المكتب السياسي لحزب الاتحاد هشام طبارة من أن نتائج الانتخابات المقبلة ستشكّل «موزاييك» للقوى الموجودة في بيروت و«ستعيد الطائفة كما كانت سابقاً حينما كانت مرجعيتها غير محصورة بشخصية واحدة».
وعليه، فإنّ هذه الشخصيات تمنّي نفسها بأن يتضاعف عددها ليصل إلى ثلثي نسبة السنّة الموجودين في مجلس النواب، ما يسمح لهم بإحياء اللقاء التشاوري بشكلٍ أنجح عمّا كان عليه بسبب عدم إمكانية استيعاب التناقضات بينهم، إضافة إلى المطالبة بحصة السنة في الحكومة كاملةً.
ولهذا الهدف، تحاول كل الشخصيات السنية المعارضة أن تبرز تمايزها عن حزب الله. هي التي كانت تعتب عليه لأنها تعلم أنه يضحي بها عند كل تسوية باعتبار أن الحريري أغلى لدى «الحزب» منها بسبب هاجسه الدائم من الفتنة السنية – الشيعية، تبدو اليوم متحررة بشكل أكبر من حليفها لتشدّد على أن مقاومة العدو الإسرائيلي وحدها ما يجمعها بالحزب، ولا سيما أن الحزب هو من أتى بعدها إلى الجبهة، مؤكدةً رفض مقولة أنها تابعة للحزب. هذا ما يقوله مثلاً فيصل كرامي لافتاً إلى أن «لا تحالف بيني وبين الحزب في أي دائرة انتخابية كما أن موقفنا في الكثير من الملفات كان يتعارض مع مقاربة الحزب ومن بينها التسوية مع الحريري».
لا تجد الشخصيات المعارضة للحريري صعوبة باستقطاب الشارع السني بعد تعليق عمله السياسي
تدرك هذه الشخصيات أن هذا التمايز يتيح لها تقديم أوراق اعتمادها بشكل أسهل إلى الدول العربية وخصوصاً السعودية التي «لم تعد تعتبر الحريري هو رجلها الأول وهي على مسافة واحدة من الجميع». أبرز نموذج هو فؤاد مخزومي الذي قرّر ارتداء ثياب الحريري ورفع خطابه الهجومي على «حزب الله» علّه بذلك يكون فرس الرهان السعودي إلى السراي الحكومي. في حين أن آخرين لا ينكرون أنّهم غير قادرين على إعطاء المملكة ما عجز عنه رئيس تيار المستقبل، إلا أن لا سبيل لديهم إلا محاولة طرق الأبواب العربية كحاضنة لهم، تماماً كتأكيدهم أن لا سبيل لعلاقات عربية سوية من دون المرور بالبوابة السورية، خصوصاً أن سياسة العداء لدمشق لم تؤتِ إلا ثماراً «مضروبة».
في المحصّلة، يراهن هؤلاء على سد الفراغ الذي سيحدثه الحريري، خصوصاً أن ماكيناتهم الانتخابية على الأرض تطمئنهم إلى أن العازمين على الالتزام بقرار الحريري بعدم التصويت ليسوا إلا نسبة قليلة سيضيفها الحريري على نسبة غير المشاركين في الانتخابات عادةً ليزعم أنه انتصر. في حين أن مناصري الحريري الذين يبحثون عن السلطة والقوة والمال سيجدونها في مكانٍ آخر.